ISLAMICS+HISTORY

يوجد في أسفل الصفحة خطب مقروءه


VIDEOS



ARTICLES








LINKS










روابط عربيه إسلامية :


http://www.islamdoor.com/k/








HINDI:






CHINESE:




 URDO :






 TAMIL :

/

PHILIPPINES

:



_____________________________






القضاء والقدر :



قال تعالى:  كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون  [البقرة:216].
سبحان من وسع علمه كل شيء، سبحان من جعل أمر المؤمن كله خير ولن يكون العبد مؤمنا حتى يؤمن بقضاء الله وقدره خيره وشره، حلوه ومره.
فما الإيمان بالقضاء والقد؟ وما هي أنواع القدر؟ وما صفات المؤمن بقضاء الله وقدره؟ وما أثر الإيمان بالقضاء والقدر؟
أما القضاء لغة فهو: الحكم، والقدر: هو التقدير.
فالقدر: هو ما قدره الله سبحانه من أمور خلقه في علمه.
والقضاء: هو ما حكم به الله سبحانه من أمور خلقه وأوجده في الواقع.
وعلى هذا فالإيمان بالقضاء والقدر معناه: الإيمان بعلم الله الأزلي، والإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة سبحانه.
وينبغي أن تعلم :
أن مراتب الإيمان بالقضاء والقدر أربع: العلم، والكتابة، والمشيئة، والإيجاد.
فالعلم: أن تؤمن بعلم الله سبحانه بالأشياء قبل كونها، قال تعالى:  وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة  [يونس:61].
والكتابة: أن تؤمن أنه سبحانه كتب ما علمه بعلمه القديم في اللوح المحفوظ، قال تعالى:  ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير [الحديد:22].
والمشيئة: أن تؤمن أن مشيئة الله شاملة فما من حركة ولا سكون في الأرض ولا في السماء إلا بمشيئته، قال تعالى:  وما تشاءون إلا أن يشاء الله  [الإنسان:30].
الإيجاد: أن تؤمن أن الله تعالى خالق كل شيء، قال تعالى:  الله خالق كل شيء       [الرعد:16].
لا يجوز لأحد أن يحتج بقدر الله ومشيئته على ما يرتكبه من معصية أو كفر، وقد أورد رب العزة ذلك في كتابه ورد عليهم فقال:  سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شي كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون  [الأنعام:148].
أي هل اطلع المدعي على علم الله فعلم أنه قد قدر له أن يفعل ففعل، علما أن قدر الله غيب لا يعلمه إلا الله سبحانه فلا يصح أن يقول أحد : كتب الله علي أن أسرق فأنا ذاهب لتنفيذ قدره، فهل اطلع على اللوح المحفوظ فقرأ ما فيه.
إن على العبد المؤمن حقا أن ينفذ أوامر الله وأن يجتنب نواهيه وليس المطلوب أن يبحث عن كنه مشيئة الله وعلمه فذلك غيب ولا وسيلة إليه.
وعقولنا محدودة والبحث في ذلك تكلف لم نؤمر به، بل قد جاء النهي عنه. يقول الإمام الطحاوي رحمه الله: وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان. وفي الحديث: ((خرج علينا رسول الله  ذات يوم والناس يتكلمون في القدر، قال: فكأنما تقفأ في وجهه حب الزمان من الغضب، فقال لهم: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم))([1]).
وأما أنواع الأقدار: فلقد قسم العلماء الأقدار التي تحيط بالعبد إلى ثلاثة أنواع :
الأول: نوع لا قدرة على دفعه أو رده ويدخل في ذلك نواميس الكون وقوانين الوجود، وما يجري على العبد من مصائب وما يتعلق بالرزق والأجل والصورة التي عليها وأن يولد لفلان دون فلان.
قال تعالى:  والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم  [يس:38].  كل نفس ذائقة الموت  [آل عمران:185].  ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير  [الحديد:22].  إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر  [الرعد:26].  إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون  [الأعراف:34].  في أي صورة ما شاء ركبك  [الانفطار: 8].
ومن ثم فهذا النوع من الأقدار لا يحاسب عليه العبد لأنه خارج عن إرادته وقدرته في دفعه أو رده.
الثاني: نوع لا قدرة للعبد على إلغائه ولكن في إمكانه تخفيف حدته، وتوجيهه ويدخل في ذلك الغرائز والصحبة، والبيئة، والوراثة.
فالغريزة لا يمكن إلغاءها ولم نؤمر بذلك وإنما جاء الأمر بتوجيهها إلى الموضع الحلال، الذي أذن الشرع به وحث عليه وكتب بذلك الأجر للحديث: ((وفي بضع أحدكم أجر))([2]).
والصحبة لا بد منها فالإنسان مدني بطبعه، وإنما جاء الأمر بتوجيه هذا الطبع إلى ما ينفع:  يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين  [التوبة:119].
والبيئة التي يولد فيها الإنسان ويعيش، لا يمكن اعتزالها ولم نؤمر بذلك وإنما يقع في القدرة التغير والانتقال إلى بيئة أكرم وأطهر، والرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسا أوصاه العالم حتى تصح توبته أن يترك البيئة السيئة إلى بيئة أكرم فقال له: انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن فيها أناسا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء([3]).
وهنا لا يكون الحساب على وجود ما ذكرناه من غريزة وصحبة وبيئة وإنما على كيفية تصريفها وتوجيهها.
الثالث: نوع للعبد القدرة على دفعها وردها، فهي أقدار متصلة بالأعمال الاختيارية والتكاليف الشرعية فهذه يتعلق بها ثواب وعقاب وتستطيع ويدخل في قدرتك الفعل وعدم الفعل معا، وتجد أنك مخير ابتداءً وانتهاءً.
فالصلاة والصيام باستطاعتك فعلها وعدم فعلها، فإذا أقمتها أثابك الله وإذا تركتها عاقبك، والبر بالوالدين باستطاعتك فعله بإكرامهما وباستطاعتك عدم فعله بإيذائهما.
وكذا يدخل في ذلك رد الأقدار بالأقدار.
فالجوع قدر وندفعه بقدر الطعام.
والمرض قدر ونرده بقدر التداوي، وقد قيل: ((يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها أترد من قدر الله شيئا؟ فقال رسول الله : هي من قدر الله))([4]).
وهذا النوع الثالث هو الذي يدخل دائرة الطاقة والاستطاعة، وهنا يكون الحساب حيث يكون السؤال: أعطيتك القدرة على الفعل وعدم الفعل، فلِمَ فعلت (في المعصية) ولِمَ لم تفعل (في الطاعة) كما يدخل الجانب الثاني من النوع الثاني في توجيه الأقدار كما ذكرنا في النوع السابق فانتبه.
وأما صفات المؤمن بقضاء الله وقدره: فهناك صفات لابد للمؤمن بقضاء الله وقدره منها:
أ- الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وذلك بأن الله سبحانه لا شيء مثله، قال تعالى:  ليس كمثله شيء  [الشورى:11]. لا في ذاته ولا في أفعاله ولا في صفاته وقد قال العلماء: ما خطر ببالك فهو على خلاف ذلك فلا تشبيه ولا تعطيل، أي لا نشبه الله بأحد من خلقه ولا ننفي صفات الله تعالى.
ب- الإيمان بأن الله تعالى موصوف بالكمال في أسمائه وصفاته. وفسر ابن عباس قوله تعالى:  إنما يخشى الله من عباده العلماء  [فاطر:28]. حيث قال: الذين يقولون: أن الله على كل شيء قدير.
ج- الحرص: وهو بذل الجهد واستفراغ الوسع وعدم الكسل والتواني في عمله.
د- على ما ينفع: حرص المؤمن يكون على ما ينفعه فإنه عبادة لله سبحانه.
هـ- الاستعانة بالله: لأن الحرص على ما ينفع لا يتم إلا بمعونته وتوفيقه وتسديده سبحانه.
و- عدم العجز: لأن العجز ينافي الحرص والاستعانة.
ز- فإن غلبه أمر فعليه أن يعلق نظره بالله وقدره والاطمئنان إلى مشيئة الله النافذة وقدرته الغالبة وأن الله سبحانه أعلم بما يصلحه، أحكم بما ينفعه، أرحم به من نفسه، وأن الله لا يقدر لعبده المؤمن إلا الخير.
وذلك مصداق قول النبي ((المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان))([5]).
وأما أثر الإيمان بالقضاء والقدر: فإن الإيمان بالقضاء والقدر له آثار كريمة منها:
الأول: القوة: وذلك سر انتصار المسلمين في معاركهم مع أعداء الله، ومعظمها كانوا فيها قلة ولكنهم أقوياء بعقيدة الإيمان بالقضاء والقدر حيث تربوا على قوله تعالى:  قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا [التوبة:51]، وللحديث: ((من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله))([6]).
يقول أبو بكر  لخالد بن الوليد : (احرص على الموت توهب لك الحياة).
ويبعث خالد بن الوليد إلى رستم يقول له: (لقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة).
ثانيا: العزة: فالمؤمن عزيز بإيمانه بالله وقدره فلا يذل لأحد إلا لله سبحانه لأنه علم وتيقن أن النافع الضار هو الله، وأن الذي بيده ملكوت كل شيء هو الله.
وأنه لا شيء يحدث إلا بأمر الله:  ألا له الخلق والأمر  [الأعراف:54]. فالخلق خلقه، والأمر أمره، فهل بقي لأحد شيء بعد ذلك؟
ثالثا: الرضى والاطمئنان: فنفس المؤمنة راضية مطمئنة لعدل الله وحكمته ورحمته ويقول عمر : (والله لا أبالي على خير أصبحت أم على شر لأني لا أعلم ما هو الخير لي ولا ما هو الشر لي).
وعندما مات ولد للفضيل بن عياض رحمه الله: ضحك، فقيل له: أتضحك وقد مات ولدك؟ فقال: ألا أرضى بما رضيه الله لي.
وقد ميز الله بين المؤمنين والمنافقين في غزوة أحد، فالاطمئنان علامة، والقلق وسوء الظن بالله علامة النفاق، قال تعالى:  ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية  [آل عمران:154].
رابعا: التماسك وعدم الانهيار للمصيبة أو الحدث الجلل، قال تعالى:  ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم  [التغابن:11]. قال علقمة رحمه الله: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. وقال ابن عباس: (يهدي قلبه لليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه).
فلطم الوجوه، وشق الجيوب، وضرب الفخذ، وإهمال العبد لنظافة الجسد، وانصرافه عن الطعام حتى يبلغ حد التلف، كل هذا منهي عنه ومناف لعقيدة الإيمان بالقضاء والقدر.
ولله در الشاعر:
             إذا ابتليت فثق بالله وارض به                 إن الذي يكشف البلوى هو الله
             إذا قضى الله  فاستسلم لقدرته                  ما لأمرىً حيلة فيما قضى الله
             اليأس يقطع أحيانا بصـاحبه                  لا تيأسـن فنعـم القـادر الله
خامسا: اليقين بأن العاقبة للمتقين: وهذا ما يجزم به قلب المؤمن بالله وقدره أن العاقبة للمتقين، وأن النصر مع الصبر وأن مع العسر يسرا، وأن دوام الحال من المحال، وأن المصائب لا تعد إلا أن تكون سحابة صيف لابد أن تنقشع وأن ليل الظالم لابد أن  يولي، وأن الحق لابد أن يظهر، لذا جاء النهي عن اليأس والقنوط:  ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح إلا القوم الكافرون  [يوسف:87]. لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا  [الطلاق:1].  كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز  [المجادلة:21].

من موقع زاد الداعي : ISLAMDOOR.com
([1])رواه أحمد .
([2])مسلم .
([3])رواه البخاري .
([4])زاد المعاد ج3 ص36 .
([5])مسلم .
([6])ابن أبي الدنيا.
========================================================
القدر سر الله في خلقه :



القدر سر الله في خلقه
سعود الشريم
ملخص الخطبة
1- الكون يدل بتناسقه على حكمة الله الحكيم وقدرته. 2- استسلام المؤمن لقضاء الله وقدره مع عجزها عن الإحاطة به. 3- من الكفر اعتراض البعض على قضاء الله. 4- من عظيم قدر الله خفاء حكمته عن البشر حتى الخير سبباً للشر ، والشر سبباً للخير. 5- انتشار شركات التأمين مظهر من ضعف الإيمان بالقضاء والقدر. 6- الإيمان بالقدر لا يعني ترك الأسباب. 7- الإيمان بالقدر يبعد المؤمن عن أكل الحرام. 8- الإيمان بالقدر جعل سلفنا الكرام أشمع الناس. 9- سادس أركان الإيمان الإيمان بالقضاء والقدر.
الخطبة الأولى

أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي عماد المؤمن في الدنيا، وأنيسه في قبره، ودليله في الأخرى يوم يلقى الله، إلى جنات النعيم.
أيها الناس، لقد خلق الله السماوات والأرض، وبنى الأجسام والعوالم، بناء متقنا، دالا على حكمته وكمال علمه وقدرته، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، خلق كل شيء فأحسن خلقه، وقدر كل شيء تقديرا، خلق الثقلين الجن والإنس، فجعل منهم كافرا وجعل منهم مؤمنا، قدر مقادير الخلائق فلم يبق ولم يذر، وأجرى مقاديره حتى على غرز الإبر، أعجز العقول والأفهام عن إدراكه، أو الإحاطة به علما، تجلت عظمة الله في القضاء والقدر، وعجزت العقول المسلمة، عن تعليله؛ فبقيت مبهوتة، عالمة قصورها عن درك جميع الأمور، فأذعنت مقرة بالعجز، مؤمنة بأن الكل من عند الله، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا [آل عمران:7]. سلموا لله في أفعاله، وعلموا أنه حكيم ومالك، وأنه لا يقدر عبثا، فإن خفيت عليهم حكمة فعله، نسبوا الجهل إلى نفوسهم وسلموا للحكيم المالك.
وإن أقواما نظروا إلى قضاء الله وقدره بمجرد عقولهم، فرأوها كما لو صدرت من مخلوق، نسبت إلى ضد الحكمة؛ فنسبوا الخالق إلى ذلك، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. وهذا هو الكفر المحض، والجنون البارد.
وأول من فعل ذلك، إبليس ـ عليه لعائن الله ـ، فإنه قد رأى ربه فضل جنس الطين على جنس النار، فأبى واستكبر وقال: أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [الأعراف:12].
واعترض أبو جهل على الخالق وحكمته، حينما قال في نبوة محمد : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي، يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانُ عَلَىٰ رَجُلٍ مّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا [الزخرف:31-32].
واعترض ابن الراوندي، الذكي المشهور، في القرن الثالث الهجري، اعترض على قضاء الله وقدره، وعطل حكمته، واستنكف عن قسمته ورزقه، فقد جاع يوما واشتد جوعه، فجلس على الجسر، وقد أمضَّه الجوع، فمرت خيل مزينة بالحرير والديباج، فقال: لمن هذه؟ فقالوا لعلي بن بلتق، غلام الخليفة، فمر به رجل، فرآه وعليه أثر الضر فرمى إليه رغيفين، فأخذهما ورمى بهما وقال: هذه الأشياء لعلي بن بلتق وهذان لي؟ فنسي هذا الجاهل الأحمق، أنه بما يقول ويعترض ويفعل، أهل لهذه المجاعة. قال الذهبي ـ رحمه الله ـ: فلعن الله الذكاء بلا إيمان ورضي الله عن البلادة مع التقوى.
عباد الله، إن تطبيق مقاييس البشر ومفاهيمهم على قضاء الله وقدره، هو مكمن الخطر، واعتراض ضعاف النفوس على قسمة الله ورزقه؛ حيث جعل هذا مؤمنا وذاك كافرا، وذاك غنيا وهذا فقيرا، وأخذه للشاب في شبابه، وما بلغ بنيانه بعض المقصود، وأخذه الطفل من أكف أبويه يتململان، والله الغني عن أخذه، وأبواه أشد الخلق فقرا إلى بقائه، وإبقائه لهرم، لا يدري معنى البقاء، كل ذلك يجد الشيطان به طريقا للوسواس، ويبتدي بالقدح في حكمة الله وقدره. ولو ملئت قلوب أولاء بالإيمان واليقين، والرضا بالله ربا، لما كان للشيطان مسلك ولا مستقر في أفئدتهم، ولأيقنوا أن الله لم يقدر شيئا إلا لحكمة، وأن الحكمة  قد يعلمها الإنسان وقد تختفي عنه وفق إرادة العزيز الحكيم.
ألا ترون أيها المسلمون، أن الاعتداء على السفينة بخرقها يعد ظلما واعتداء؟ ومع ذلك فقد يظهر لكم أن ذلك الخرق، كان طريقا للنجاة من هلكة. وهذا ما وقع للخضر مع موسى ـ عليه السلام ـ: أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَـٰكِينَ يَعْمَلُونَ فِى ٱلْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الكهف:79].
وانظروا ـ حفظكم الله ـ، إلى يوسف عليه السلام، لما اتهم بالفاحشة، وسجن بها؛ ليكون ذلك السجن سبيلا إلى جعله على خزائن الأرض حفيظا عليما.
ويعيش محمد  يتيم الأبوين، معذبا في أهله وماله ونفسه، تصد الأبواب دونه، ويرمى بالحجارة، ويلقى عليه سلا الجزور، ثم هو بعد ذلك، سيد ولد آدم، ومن لم يحبه كفر بالله وبما أنزل على محمد .
أيها المسلمون، مضت سنة الله في خلقه، بأن للأعمال القلبية، سلطانا على الأعمال البدنية، فما يكون في الأعمال من صلاح وفساد، فإنما مرجعه، فساد القلب وصلاحه، فطمأنينة فؤاد المسلم، وركونه إلى ربه بعد أن يؤدي ما عليه من واجب، إنما هو إيمان منه، بأن زمام الأمور كلها تحت مشيئة الله النافذة، فهو يتوكل على ربه، دون توتر ولا قلق؛ ومن ثم، فإنه يستقبل الدنيا بشجاعة ويقين، ولسان حاله، يقول ما قاله علي بن أبي طالب:
أي يوميّ من الموت أفر            يـوم لا يقـدر أو يوم قـدر
يوم لا يقـدر لا أحـذره           ومن المقدور لا ينجو الحـذر
إن قلق كثير من الناس، وخواء أفئدتهم من الإيمان بقضاء الله وقدره، وفزعهم من المستقبل، والشعور بالوهن عن حمل المصائب، هو سر قيام التدجيل والتكهن والعرافة والتنجيم، وهو سر تعلق عدد من المجتمعات ليس بالقليل، بما يسمى شركات التأمين، التي قرر حرمتها علماء الملة. والتي تؤمن على المال والأرواح والأعراض، الذي استولت من خلاله على قناطير مقنطرة من الذهب والفضة، استقطبتها من هلع المذعورين وخشية الخوافين على أعمارهم حينا، وعلى أموالهم حينا آخر.
ومن الفرق الذي استحوذ على الجبناء عندما يدفعهم الشك إلى ترقب الموت كامنا في كل أفق، فيفزعون من الهمس، ويألمون من اللمس.
ولن تقر نفوس هؤلاء، إلا إذا خالطها الإيمان بالله، والتسليم له، والرضا بقضائه وقدره. قال رسول الله  ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا)) رواه الترمذي[1].
وقال  ((لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه)) رواه الترمذي[2].
عباد الله، إن شأن الناس مع القدر عجيب، فذاك تاجر يؤرقه السهود، لأنه من خوفه على رزقه، يتوجس انهيار تجارته بين الحين والآخر، وآخر غط في نوم عميق، فهو لا يتجشم مؤنة سعي؛ لأن الأرزاق مقسومة. والحقيقة كلها، في التوسط بين الطرفين، فالمسلم يؤدي العمل المطلوب، فيعقل ويتوكل، وينفي الريب عن فؤاده، بعد أن يؤدي ما عليه، عملا بقول المصطفى ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له)) متفق عليه[3].
ولذا، فإن أحاديث القدر، علاج للقلق والتشاؤم، وليست ذريعة كسل أو خمول. إذ ما عساك ـ أيها المسلم ـ أن تفعل، إذا أصابك ما تكره؟ إن كان تغيير المكروه في مقدورك، فالصبر عليه بلادة، والرضا به حمق. وإن كان ما عراك، فوق ما تطيق، فهل هناك حيلة، أفضل من الاتزان ورباطة الجأش؟ وهل هناك مسلك أرشد من الرضا والتسليم للخالق، الذي يحول الداء دواء، والمحنة منحة؟ أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَـٰذِبِينَ [العنكبوت:2-3].
أيها الناس، إن الله ـ عز وجل ـ قسم المعاش وقدر الأرزاق، والناس أجمع لا يملكون عطاء ولا منعا، وإنما الناس وسائط، فما أعطوك، فهو بقدر الله وما منعوك فهو بقدر الله، وما كان لك، فسوف يأتيك على ضعفك، وما كان لغيرك فلن تناله بقوتك، وما عليك إلا أن تجد وتعمل، وتضرب في آفاق الأرض، وتأخذ بأسباب الرزق، فمن جد وجد، ومن زرع حصد، فلا كسب بلا عمل، ولا حصاد بلا زرع، ومسألة الرزق أدق من أن تدرك، وأبعد من أن تنال. وانظروا إلى الناس، ترون منهم الغواصين، الذين جعل الله رزقهم في أعماق البحار، والطيارين، الذين جعل الله معاشهم في بحار الهواء بين السماء والأرض، وأصحاب المناجم يجدون خبزهم، مخبوءا في الصخر الأصم، فلا ينالونه إلا بتكسيره. ومُروِّضُ[4] الأسود والفيلة، الذي يترصده الموت كل حين، يجد مصدر رزقه، بين أنياب الأسود أو تحت أرجل الفيلة: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـٰتٍ لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبّكَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ[الزخرف:32].
فلا تجزعوا من الفقر عباد الله، فإن الفقر قد يسمو، كما سما فقر المصطفى  ولا تغتروا بالغنى؛ فإن الغنى قد يدنو، كما دنى غنى قارون وأبي جهل.
واجعلوا الفقر والغنى مطيتين، لا تبالون أيهما ركبتم، إن كان الفقر، فإن فيه الصبر، وإن كان الغنى فإن فيه البذل. وأبشروا بقول المصطفى ((إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت، حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملن أحدكم، استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن الله ـ تعالى ـ، لا ينال ما عنده إلا بطاعته)) أخرجه ابن حبان وأبو نعيم في الحلية[5].
أيها المسلمون، إن الإيمان بالقضاء والقدر، يثمر الإقدام، وخلق الشجاعة والتسليم بأقدار اليوم والغد، وهذا ما ذكره الله في قوله: قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَـٰنَا [التوبة:51]. وقوله: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ [التوبة :52]. يعنون بذلك كسب المعركة بالنصر، أو الموت دون الظفر بها، وهو حسن كذلك؛ لأن ما عند الله خير وأبقى .أما الذين لا إيمان لهم، فهم إن انتصروا أو انهزموا، بين عذابين، آجل وعاجل. وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ [التوبة :52]. فهم يحيون بفؤاد هواء، تلعب به الأحداث والظنون، وأشباح الموت والمصائب.
إن الذي يعتقد أن الأجل محدود، والرزق مكفول، والأشياء بيد الله يصرفها كيف يشاء، كيف يرهب الموت والبلى؟ وكيف يخشى الفقر والفاقة مما ينفق من ماله؟ ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـٰناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ فَٱنْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَٱتَّبَعُواْ رِضْوٰنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:173-174].
ومن هنا اندفع السلف الصالح، إلى الممالك والأقطار يفتحونها، فأدهشوا العقول، وحيروا الألباب، وقهروا الأمم، فكسروا كسرى، وقصروا قيصر، ودمروا بلادا، ودكدكوا أطوادا، وسحقوا رؤوس الجبال تحت حوافر جيادهم. أرجفوا كل قلب، وأرعدوا كل فريسة، وقائدهم في ذلك كله، الإيمان بالله وبقضائه وقدره.
بهذا الاعتقاد، لمعت سيوفهم بالمشرق، وانقضت شهبها على الحيارى من أهل المغرب، فالله أكبر ما أعظم الإيمان بالقدر! والله أكبر، ما أعظمه من مطهر للنفوس، من رذيلة الخور والدعة، العائقين عن بلوغ الرشد والدرجات العلى!
اللهم إنا نسألك إيمانا بك، وبملائكتك، وكتبك ورسلك، واليوم الآخر، وبقدرك خيره وشره، إنك قريب مجيب الدعوات.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



[1]  سنن الترمذي ح (2623) وقال : حديث حسن صحيح. وأخرجه أيضاً مسلم ح (34).
[2]  سنن الترمذي ح (2144) ، وقال عنه: حديث غريب. وصححه الألباني. السلسلة الصحيحة (2439).
[3]  أخرجه البخاري ح (4949) ، ومسلم ح (2647).
[4]  المروض: المذلِّل.
[5]  لم أجده في صحيح ابن حبان بعد طول البحث ، وأخرجه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (10/26- 27) وهو صحيح بشواهده.
الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً كثيرا طيبا مباركا، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الإيمان بالقضاء والقدر، دعامة من دعامات هذا الدين، فهو الركن السادس من أركان الإيمان، ضل فيه من ضل، ممن حرم هداية الله، ولم يوفق للتوحيد، الذي هو حق الله على العبيد، والمخالفون في القدر، بين الغالي فيه، والجافي عنه، والقول الحق هو الوسط؛ قول أهل السنة والجماعة، بين الغالي فيه والجافي عنه كما قال بعض أهل العلم، من بين فرث ودم، لبنا خالصا سائغا للشاربين.
وأهل السنة والجماعة يقولون: إن على العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه، فقدر ذلك تقديرا محكما مبرما، ليس فيه ناقض ولا معقب، ولا مزيل، ولا مغير، ولا زائد ولا ناقص من خلقه، في سماواته وأرضه، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن للعبد مشيئة وإرادة تحت مشيئة الله وإرادته وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ [التكوير:29].
وقال تعالى: وَكُلَّ شىْء أَحْصَيْنَـٰهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ [يس:12]. وقال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَـٰهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]. وقال ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)) رواه مسلم[1].
والفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، تؤمن بالقدر خيره وشره، ويقولون: إن أصل القدر سر الله في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل. والتعمق والنظر في ذلك، ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، فالحذر كل الحذر من ذلك، نظرا وفكرا ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر على أنامه ونهاهم عن مرامه كما قال تعالى في كتابه: لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـئَلُونَ [الأنبياء:23]، فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين.
هذا، وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأفضل البشرية...


[1]  صحيح مسلم ح (2653).
 +++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++
================================================================
الثبات في المحن :



الثبات في المحن ودروس من غزوة ُأحد
سليمان حمدالعودة
ملخص الخطبة
1- البلاء والابتلاء سنة لله في مخلوقاته 2- اختلاف الناس أمام البلاء بين صابر وقانط 3- مصاب النبي صلى الله عليه وسلم بالبلاء في أحد 4- بلاء الصحابة في سبيل الله في غزوة أحد 5- دروس غزوة أحد
الخطبة الأولى

اخوة الايمان ونحن نقف على نهاية أيام عام هجري يؤذن بالانصراف حري بنا أن نتأمل ونتفكر في أحداثه وعبره، وقد اشتمل على مسرات واحزان وتوفرت فيه الصحة لأقوام وأقعد المرض آخرين، وفيه من شارف على الهلكة ثم متعه الله إلى حين، وفيه من فاجأته المنية واخترمه ريب المنون فيه، قدر ربك الغنى لقوم وأقنى الآخرين، وفيه أضحك ربك وأبكى وأمات وأحيا، وعليه النشأة الأخرى كما اشتمل العام على قتل فئام من الناس وتشريد آخرين وإيذاء طوائف من المسلمين لا ذنب لهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد:  إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق (2)
ايها المسلمون لا غرابة أن يقع هذا وغيره، فما هذه الدار بدار قرار، وليست خلوا من المنغصات والأكدار ويعلم العارفون أن هذه الدنيا لا يدوم على حال لها شأن، وأنها متاع الغرور، وأنها دار امتحان وابتلاء، ويخطئ الذين يغترون بزينتها فيفرحون بما أوتوا وإن كان فيه حتفهم، ويأسون على ما فاتهم وإن كان فواته خيرا لهم.
 كذلك يوجه القرآن وما أسعد من يفقه توجيه القرآن:  ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور (3)
إن المصائب والمحن في هذه الحياة الدنيا ليست قصرا على جيل دون الآخر وليست خاصة بأمة دون أخرى بل هى عامة في الأولين والآخرين من بني الانسان وتشمل الصالحين والصالحات قال الله تعالى:  لقد خلقنا الإنسان في كبد (1)
وقال تعالى:  نبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون 
ولكن الذى يختلف فيه الناس أسلوب التعامل مع مصائب الدنيا ونكدها فإذا امتاز المؤمنون بالصبر والمصابرة والرضى والتسليم بأقدار الله الجارية مع بذل الجهد في تحصيل الخير وتحقيق العدل ودفع المكروه والشر ورفع الظلم في الأرض فان سواهم يضيق به الصدر وتنقطع أوصاله بالحزن والقلق، ويصاب بالضيق والاحباط، وربما أودى بحياته تخلصا مما هو فيه، فانتقل إلى نكد مؤبد وإلى عذاب دائم  ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور .
إخوة الايمان: واقرؤوا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، وستجدون أنهم نالوا من المصائب والمحن ما نالهم، ومنهم أزكى البشرية وأتقاها، وجيلهم خير أجيال المسلمين وأنقاها، كل ذلك حتى يمتحن المؤمنون ويعلم الله الصابرين ويكشف زيف المنافقين وحتى يعلم هؤلاء وتعلم الأمة من ورائهم قيمة الثبات على الحق والصبر على الشدائد حتى يأذن الله بالنصر والفرج.
 واذا كان الناس في حال الرخاء يتظاهرون بالصلاح والتقى ففي زمن الشدائد يميز الله الخبيث من الطيب ويثبت الله المؤمنين ويلقي الروع في قلوب آخرين.
قفوا، معاشر المسلمين عند غزوة احد واقرؤا بشأنها قوله تعالى  وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات او قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين  وقوله:  إذ تصعدون ولا تلووون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غماً بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم و لاما أصابكم والله خبير بما تعملون 
وقوله:  وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا  الآية.
ولقد كانت أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها تدرك هول المعركة وشدتها على الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين وهى تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: هل مر عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟
والواقع يشهد أن المسلمين حين خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واختل ميزان المعركه أسقط في أيديهم وتساقط الشهداء منهم في ميدان المعركة، وفقدوا اتصالهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وشاع أنه قتل، وفر من فر منهم، وأصابت الحيرة عددا منهم وآثر آخرون الموت على الحياة وخلص المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجرحوا وجهه وكسروا رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وكانت فاطمة رضي الله عنها تغسل الدم عن وجهه وكان علي رضى الله عنه يسكب عليها الماء بالمجن، ولم يستمسك الدم حتى أحرقوا حصيرا،  فلما كان رمادا ألصقوه بالجرح فاستمسك الدم كما في الحديث المتفق على صحته(1) 
وفى هذه الأجواء الصعبة يثبت الرسول صلى الله عليه وسلم وينادي في المسلمين: ((إليّ عباد الله))  قال تعالى  إذ تصعدون و لا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم (2)
وفى ظل هذه الظروف العصيبة يتنادى المسلمون وتثبت طائفة من شجعان المؤمنين وتقاتل قتال الابطال دفاعا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويخلص بعض المشركين الى النبي صلى الله عليه وسلم هو في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش فيقول عليه الصلاة والسلام: ((من يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة؟ فقاتلوا عنه واحدا واحداً حتى استشهدوا الأنصار السبعة(1) ثم قاتل عنه طلحة بن عبيد الله قاتل قتالا مشهورا حتى شلت يديه بسهم أصابهم(2) وقاتل سعد بن ابى وقاص رضي الله عنه وهو من مشاهير الرماة بين يدي الرسول صلى الله عليه سلم وهو يقول له: ارم فداك أبي وأمي))
 وهكذا يكون حال المؤمنين حين تعصف بهم المحن: الصبر والثبات والجهاد والتضحية حتى يأذن الله بالنصر أو يفوزوا بالشهادة فينالوا المغنم في الدنيا ويحظون بالدرجات العليا في الآخرة.
وهاك فوق ما سبق نموذجا واعيا للثبات على الإسلام حتى آخر لحظة والوصية بالدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى آخر رمق، يمثله الصحابي الجليل أنس بن النضر رضي الله عنه الذي كان يحث المسلمين على الجهاد ويقول: (الجنة، ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد)
 وعندما انجلت المعركة وجد في جسده بضعاً وثمانين من بين ضربة ورمية، وطعنة لم يعرفه أحد إلا أخته (الربيع) عرفته ببنانه، وحين أرسل النبى صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت ليتفقده وجده وبه رمق، فرد سلام الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال: إني أجد ريح الجنة وقل لقومي من الأنصار: (لا عذر لكم عند الله إن يخلص إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وفيكم شفر طرف ودمعت عيناه)
وهاكم نموذجا آخر تمثله النساء وليست البطولات قصرا على الرجال، فالسمراء بنت قيس يصاب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد، فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين. قالت: أرونيه حتى أنظر إليه حتى إذا رأته وأطمأنت على حياته قالت كلمتها العظيمة: كل مصيبة بعدك جلل (أي صغيرة).



(2) البروج / 10  .
(3) الحديد /22، 23  .
(1) البلد /4
(1) تفسبر ابن كثير 2/123.
(2) ال عمران / 153
(1) صحيح مسلم شرح النووى 12/ 146 
(2) صحيح البخارى 7/ 358 الفتح .
الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين يحكم ما يشاء ويختار لا معقب لحكمته ولا راد لقضائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه.
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى آله الطيبين ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد: فهذه إطلالة على نموذج من المحن والشدائد التى نزلت يوما من الدهر بالمسلمين، وهذه لمحة خاطفة عن بعض أحداث غزوة أحد.
 ما أحرانا بتأملها والاستفادة من عبرها، ألا ما أحوجنا في هذه الظروف إلى قراءة كتاب الله بشكل عام، وإلى قراءة ما نزل تعقيبا على هذه الغزوة الكبيرة في تاريخ المسلمين بشكل خاص، وقد نزل حول أحداث غزوة أحد ثمان وخمسون آية من سورة آل عمران ابتدأت بذكر أول مرحلة من مراحل الإعداد لهذه المعركة  وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال 
وتركت في نهايتها تعليقا جامعا على نتائج المعركة وحكمتها والله يقول:  ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب 
اجل لقد تميز الناس على حقيقتهم في غزوة أحد، فكانوا ثلاث طوائف سوى الكفار، واذا كان قد مر معنا خبر طائفة من المؤمنين ثبتت حول النبي صلى الله عليه وسلم تحوطه وتدافع عنه حتى استشهد من استشهد منهم، وجرح من جرح، فثمة طائفة أخرى من المؤمنين حصل منهم ما حصل من تول وفرار واستذلهم الشيطان ببعض ما كسبوا .. لكن الله عفا عنهم لأن هذا الفرار لم يكن عن نفاق ولا شك، وإنما كان عارضا عفا الله عنه كما قال تعالى:  إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استذلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم .
فعادت شجاعة الإيمان الى مركزها ونصابها، وكذلك ينبغي أن يكون سلوك المؤمنين إذا وقعوا في الخطأ وذكروا: تذكروا فإذا هم مبصرون، واستغفروا لذنوبهم وعادوا الى قافلة المؤمنين.
 أما الذين يستمرءون الخطأ ويصرون على المعاندة وإيذاء المؤمنين مع علمهم بالحق وأهله وبالباطل وجنده، فأولئك في قلوبهم مرض، وسيكشف الله أضغانهم وسيفضحهم في جوف بيوتهم .
إخوة الايمان: أما الطائفة الثالثة التى أراد الله لها أن تتكشف على حقيقتها في غزوة أحد فهي طائفة المنافقين.
للإمام ابن القيم رحمه الله كلام جميل في الفصل الذى عقده للحكم والغايات المحمودة التى كانت في وقعة أحد، ومما قاله بشأن المنافقين: ومنها أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، فإن المسلمين لما اظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر وطار لهم الصيت دخل معهم في الإسلام ظاهرا من ليس معهم فيه باطنا، فاقتضت حكمة الله عز وجل أن سبب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق، فأطلع المنافقون رؤوسهم في هذه الغزوة، وتكلموا بما كانوا يكتمونه، وظهرت مخابئهم، وعاد تلويحهم تصريحا، وانقسم الناس إلى كافر ومؤمن ومنافق انقساما ظاهرا وعرف المؤمنون أن لهم عدوا في نفس دورهم، وهم معهم لا يفارقونهم فاستعدوا لهم وتحذروا منهم. قال تعالى:ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء
أي ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين، حتى يميز أهل الايمان من أهل النفاق _ كما ميزهم بالجنة يوم أحد _ ما كان الله ليطلعكم على الغيب الذى يميز به بين هؤلاء وهؤلاء، فإنهم متميزون في غيبه وعمله، وهو سبحانه يريد تمييزا مشهودا، فيصبح معلوما وشهادة الأمر الذى كان غيبا .. وإن كان الله يجتبي من رسله من يطلعهم على ذلك(1).
إخوة الاسلام: وكذلك ينبغي أن تكون الشدائد والمحن في كل زمان فيصلا لتمييز المؤمنين، وفضح المنافقين.
 ومن الحكم الجليلة التى ذكرها ابن القيم رحمه الله لهذه الغزوة: استخراج عبودية أوليائه وجذبة في السراء والضراء، فيما يحبون ويكرهون، وفى حال ظفرهم أعدائهم بهم، فاذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون عبيده حقا، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والعافية(2)
 ومن هذه الحكم: (أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم، قيض لهم التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم ومبالغتهم في أذى أوليائه وغير ذلك من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم، وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في قوله:  ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين ءامنوا منكم ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين%وليمحص الله الذين ءامنوا ويمحق الكافرين(1)
ألا ما أعظم هذه الحكم، وما أحوج المسلمين إلى ذكر هذه العبر، وقد وردت روايات تفيد الصلاة على شهداء أحد، لكنها لا تقوى على معارضة أحاديث نفي الصلاة عليهم، فكلها متكلم فيها، وقد دفن الاثنان والثلاثة في قبر واحد، وحمل بعض الشهداء أهلوهم ليدفنوهم في المدينة فأمرهم الرسول صلى الله علية وسلم بدفنهم في أماكن استشهادهم بأحد.
 ولما انتهى من دفن الشهداء صفّ أصحابه، وأثنى على ربه فقال: ((اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادى لما أضللت، ولا مضل لمن مباعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك، ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني اسألك النعيم المقيم الذى لا يحول ولا يزول، اللهم إني اسألك النعيم يوم العلية (أي الفاقة)، والأمن يوم الخوف اللهم أعوذ بك من شر ما أعطيتنا، ومن شر ما منعت، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتو الكتاب، إله الحق)) ثم ركب فرسه ورجع الى المدينة.



(1) آل عمران/179.
(2) زادة المعاد 3/219،220.
(1) آل عمران/139_141.



____________________________________


الدعاء :



ملخص الخطبة
1- الدعاء سلاح المؤمن. 2- الدعاء سلاح الأنبياء ، وبه هلك أعداؤهم. 3- أوقات إجابة الدعاء. 4- أحوال أحرى بإجابة الدعاء. 5- آداب الدعاء. 6- منزلة الدعاء عند الله.
الخطبة الأولى


يتقلب الناس في دنياهم بين أيام الفرح والسرور, وأيام الشدة والبلاء, وتمر بهم سنين ينعمون فيها بطيب العيش, ورغد المعيشة, وتعصف بهم أخرى عجاف, يتجرعون فيها الغصص أو يكتوون بنار البُعد والحرمان.
وفي كلا الحالين لا يزال المؤمن بخير ما تعلق قلبه بربه ومولاه, وثمة عبادة هي صلة العبد بربه, وهي أنس قلبه, وراحة نفسه.
في زمان الحضارة والتقدم, في كل يوم يسمع العالم باختراع جديد, أو اكتشاف فريد في عالم الأسلحة, على تراب الأرض, أو في فضاء السماء الرحب, أو وسط أمواج البحر, وإن السلاح هو عتاد الأمم الذي تقاتل به أعداءها, فمقياس القوة والضعف في عُرف العالم اليوم بما تملك تلك الأمة أو الدولة من أسلحة أو عتاد.
ولكن ثمة سلاح لا تصنعه مصانع الغرب أو الشرق, إنه أقوى من كل سلاح مهما بلغت قوته ودقته, والعجيب في هذا السلاح أنه عزيز لا يملكه إلا صنف واحد من الناس, لا يملكه إلا أنتم, نعم, أنتم أيها المؤمنون الموحدون, إنه سلاح رباني, سلاح الأنبياء والأتقياء على مرّ العصور.
سلاح نجى الله به نوحًا عليه السلام فأغرق قومه بالطوفان, ونجى الله به موسى عليه السلام من الطاغية فرعون, نجى الله به صالحًا, وأهلك ثمود, وأذل عادًا وأظهر هودَ عليه السلام, وأعز محمدًا  في مواطن كثيرة.
سلاح حارب به رسول الله  وأصحابه أعتى قوتين في ذلك الوقت: قوة الفرس, وقوة الروم, فانقلبوا صاغرين مبهورين، كيف استطاع أولئك العرب العزَّل أن يتفوقوا عليهم وهم من هم, في القوة والمنعة, ولا يزال ذلكم السلاح هو سيف الصالحين المخبتين مع تعاقب الأزمان وتغير الأحوال.
تلكم العبادة وذلك السلاح هو الدعاء.
أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ((الدعاء هو العبادة)) ثم قرأ: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين [غافر: 60] [1].
وليعلم أن للدعاء أدابًا عظيمة حريٌ بمن جمعها أن يستجاب له, فمنها:
أولاً: أن يترصد لدعائه الأوقات الشريفة كيوم عرفة من السنة, ورمضان من الشهور, ويوم الجمعة من الأسبوع, ووقت السحر من ساعات الليل, وبين الآذان والإقامة وغيرها.
روى الترمذي وأبو داود وأحمد في مسنده ـ وحسنه ابن حجر ـ أن أنسًا رضي الله عنه قال: قال رسول الله ((الدعاء لا يرد بين الآذان والإقامة)) [2].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ((إن في الجمعة لساعة لا يوافقها مسلم يسأل الله فيها خيرًا إلا أعطاه إياه قال: وهي ساعة خفيفة)) رواه البخاري ومسلم[3].
ولهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ((يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له, ومن يسألني فأعطيه, ومن يستغفرني فأغفر له)) [4].
ثانيًا: أن يغتنم الأحوال الشريفة كحال الزحف, وعند نزول الغيث, وعند إفطار الصائم, وحالة السجود, وفي حال السفر.
أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء)) [5].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما ـ في حديث طويل وفيه ـ قال عليه الصلاة والسلام: ((فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل, وأما السجود فاجتهدوا فيه في الدعاء فقمِنٌ أن يستجاب لكم)) [6] رواه مسلم, أي حقيق وجدير أن يستجاب لكم.
وأخرج أبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ((ثلاث دعوات مستجابات لاشك فيهن: دعوة الوالد, ودعوة المسافر, ودعوة المظلوم)) [7].
وأخرج الترمذي وحسنه وابن ماجه والطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ((ثلاث لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر, والإمام العادل, ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين)) [8].
ثالثًا: أن يدعو مستقبلاً القبلة رافعًا يديه مع خفض الصوت بين المخافتة والجهر, وأن لا يتكلف السجع في الدعاء, فإنَّ حال الداعي ينبغي أن يكون حال متضرع, والتكلف لا يناسب, قال تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون [البقرة: 186].
ذكر ابن حجر عن بعض الصحابة في معنى قوله تعالى: ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً [الإسراء: 110] أي لا ترفع صوتك في دعائك فتذكر ذنوبك فتُعير بها.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما كما عند البخاري: "فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه, فإني عهدت رسول الله  وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب[9]".
رابعًا: الإخلاص في الدعاء والتضرع والخشوع والرغبة والرهبة, وأن يجزم الدعاء ويوقن بالإجابة ويصدق رجاؤه فيه.
قال تعالى: إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدًا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرونتتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا ومما رزقناهم ينفقونفلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون [السجدة: 14 ـ 16].
أخرج الترمذي والحاكم وقال: حديث مستقيم الإسناد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة, واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاه)) [10].
وروى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ((إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة, ولا يقولن اللهم: إن شئت فأعطني فإنه لا مستكره له)) [11].
قال ابن بطال: ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة, ولا يقنط من الرحمة, فإنه يدعو كريمًا, وقديمًا قيل: ادعوا بلسان الذلة والافتقار لا بلسان الفصاحة والإنطلاق.
خامسًا: أن يلح في الدعاء ويكون ثلاثًا ولا يستبطئ الإجابة, قال تعالى: أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض [النمل: 62].
أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ((يستجاب لأحدكم ما لم يعجل, يقول: دعوت فلم يستجب لي)) [12].
قال الداودي ـ رحمه الله ـ : على الداعي أن يجتهد ويلح ولا يقل: إن شئت، كالمستثني, ولكن دعاء البائس الفقير.
سادسًا: أن يفتتح الدعاء ويختمه بذكر الله تعالى والصلاة على النبي  ثم يبدأ بالسؤال.
قال سبحانه: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها [الأعراف: 180].
أخرج النسائي وابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله  جالسًا يعني ورجل قائم يصلي، فلما ركع وسجد وتشهد دعا فقال في دعائه: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت, المنان, بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام, يا حي يا قيوم إني أسألك, فقال النبي  لأصحابه: ((تدرون بم دعا؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم, قال: ((والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى)) [13].
وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله  كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل ((اللهم لك الحمد, أنت نور السموات والأرض, ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض, ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن, وأنت الحق ووعدك الحق, وقولك الحق, ولقاؤك حق, والجنة حق، والنار حق, والساعة حق, اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت, وإليك أنبت, وبك خاصمت, وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وأخرت, وأسررت وأعلنت, أنت إلهي لا إله إلا أنت)) [14].
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك )[15].
قال أبو سليمان الداراني ـ رحمه الله ـ: من أراد أن يسأل الله حاجة, فليبدأ بالصلاة على النبي  ثم يسأل حاجته ثم يختم بالصلاة على النبي  فإن الله عز وجل يقبل الصلاتين وهو أكرم من أن يدع ما بينهما.
سابعًا: التوبة ورد المظالم والإقبال على الله عز وجل بكنه الهمة, وهو الأدب الباطن، وهو الأصل في الإجابة تحري أكل الحلال, كما قال الغزالي رحمه الله.
أخرج الطبراني والحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ((من سره أن يستجاب له عند الكرب والشدائد فليكثر من الدعاء في الرخاء)) [16].
قال الأوزاعي ـ رحمه الله ـ : خرج الناس يستسقون فقام فيهم بلال بن سعد, فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: (يا معشر من حضر: ألستم مقرين بالإساءة؟, قالوا: بلى, فقال: اللهم إنا سمعناك تقول: ما على المحسنين من سبيل [التوبة: 91]. وقد أقررنا بالإساءة فهل تكون مغفرتك إلا لمثلنا, اللهم اغفر لنا, وارحمنا واسقنا), فرفع يديه ورفعوا أيديهم فسُقوا.
وقال سفيان الثوري: "بلغني أن بني إسرائيل قحطوا سبع سنين حتى أكلوا الميتة من المزابل وأكلوا الأطفال, وكانوا كذلك يخرجون إلى الجبال يبكون ويتضرعون فأوحى الله إلى أنبيائهم  عليهم السلام: لو مشيتم إليَّ بأقدامكم حتى تَحْفَى ركبكم وتبلغ أيديكم عنان السماء وتكل ألسنتكم من الدعاء فإني لا أجيب لكم داعيًا, ولا أرحم لك باكيًا حتى تردوا المظالم إلى أهلها, ففعلوا فمطروا من يومهم". والتوجيه النبوي يقول: ((أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)) [17].

 




[1]  الحديث رواه الترمذي ح (2969)، وأبو داود ح (1479)، وابن ماجه ح (3828).
[2]  رواه الترمذي ح (212)، وأبو داود ح (521)، وأحمد ح (22174).
[3]  رواه البخاري ح (935)، ومسلم ح (852).
[4]  رواه البخاري ح (6321)، ومسلم ح (758).
[5]  رواه مسلم ح (482).
[6]  رواه مسلم ح (479).
[7] رواه أبو داود ح (1536) وابن ماجه ح (3862) والترمذي ح (1905) وأحمد ح (8375).
[8]  رواه الترمذي ح (3598)، وأحمد ح (9450)، وابن ماجه (1752).
[9]  رواه البخاري ح (1737).
[10]  رواه الترمذي ح (3479) والحاكم ح (1817) وأحمد (6617) قال الهيثمي: وإسناده حسن (10/148).
[11]  رواه البخاري ح (6338).
[12]  رواه البخاري ح (6340)، ومسلم (2735).
[13]  رواه الترمذي ح (3544)، والنسائي ح (1300)، وابن ماجه ح (3857).
[14]  رواه البخاري ح (1120)، ومسلم ح (769).
[15]  رواه الترمذي ح (486).
[16]  رواه الترمذي ح (3382) بإسناد ضعيف والحاكم ح (1997) وصححه، ووفقه الذهبي.
[17]  رواه الطبراني في معجمه الصغير، قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفهم (10/290).
الخطبة الثانية

أيها المؤمنون:
الدعاء من أعظم العبادات, فيه يتجلى الإخلاص والخشوع, ويظهر صدق الإيمان, وتتمحص القلوب, وهو المقياس الحقيقي للتوحيد, ففي كلامٍ لشيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: إذا أردت أن تعرف صدق توحيدك فانظر في دعائك.
أخرج الطبراني وأبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ((إن أعجز الناس من عجز عن الدعاء, وأبخل الناس من يبخل بالسلام...)) [1].
وأنت أيها المبارك مأجور في دعائك, موعود بالإجابة.
أخرج الترمذي وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه ووافقه الذهبي عن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله ((إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه بدعوة أن يردهما صفرًا ليس فيهما شيء)) [2].
وخرج الترمذي ـ وقال: حسن صحيح غريب ـ عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله ((ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها, أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم)) فقال رجل من القوم: إذا نكثر قال: ((الله أكثر)) [3]. فبكلٍ أنت غانم رابح, مأجور مشكور.
والدعاء كريم على الله, عظيمٌ قدره عنده سبحانه, أخرج الترمذي والبخاري في الأدب المفرد والطبراني والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ((ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء)) [4].
واسمع إلى النداء الرباني, فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ((قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي, يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي, يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)) [5].
الله أكبر, ولا إله إلا الله, إذن فابشروا وأقبلوا، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة, انطرحوا بين يديه, وارفعوا حاجاتكم برداء الذل والمسكنة, ومرغوا الأنوف والجباه, واهتفوا باسمه فثم السعادة والأمان.
أعوذ بالله من الشيطان الرحيم: إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الله النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمينادعوا ربكم تضرعًا وخفية إنه لا يحب المعتدينولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفًا وطمعًا إن رحمت الله قريب من المحسنين [الأعراف: 54 ـ 56].



[1]  ذكره الهيثمي في المجمع وقال: رواه الطبراني في الأوسط... ورجاله رجال الصحيح غير مسروق بن المرزبان، وهو ثقة (8/30).
[2]  رواه الترمذي ح (3556)، وأبو داود ح (1488)، وابن ماجه (3865) والحاكم بنحوه (1830) ووافقه الذهبي على تصحيحه.
[3]  رواه الترمذي ح (3573)، وأحمد ح (10749)، والحاكم ح (1816).
[4]  رواه الترمذي ح (3370) ورواه الحاكم ح (1801) ووافقه الذهبي على تصحيحه، والبخاري في الأدب المفرد ح (712) وحسنه الألباني.
[5]  رواه الترمذي ح (3540).


المصدر:موقع المنبر

====================================




الدعاء سلاح المؤمن:



ملخص الخطبة
1- قصة المتضرع إلى الله 2- سرعة إجابة الله لمن دعاه 3- أسباب رد الدعاء 4- الابتلاء بالمصائب والمحن 5- الابتلاء بالخيرات والعطايا
الخطبة الأولى



عباد الله: يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار يُكنى أبا مِعْلَق، وكان تاجرا يتجر بمال له ولغيره، يضرب به في الآفاق وكان ناسكا ورعا.
فخرج مرة فلقيه لص مقنع في السلاح فقال له: ضع ما معك فإني قاتلك .قال ما تريد إلى دمي شأنك بالمال.
قال: أما المال فلي ولست أريد إلا دمك. قال: أما إذا أبيت فذرني أُصلي أربع ركعات، قال: صل ما بدا لك، قال: فتوضأ ثم صلى أربع ركعات.
فكان من دعائه في آخر سجدة أن قال: يا ودود ياذا العرش المجيد أسألك بعزك الذي لايرام، وملكك الذي لايضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفيني شر هذا اللص، يا مغيث أغثني، يا مغيث أغثني ثلاث مرات.
فإذا هو بفارس أقبل بيده حربة واضعها بين أُذني فرسه فلما بصر به اللص أقبل نحوه فطعنه فقتله.
ثم أقبل إليه فقال: قم. قال: من أنت بأبي وأمي فقد أغاثني الله بك اليوم؟
قال: أنا ملك من أهل السماء الرابعة دعوت بدعائك الأول، فسمعتُ لأبواب السماء قعقعة، ثم دعوت بدعائك الثاني فسمعتُ لأهل السماء ضجةً. ثم دعوت بدعائك الثالث فقيل لي دعاء مكروب فسألت الله تعالى أن يُوليني قتله(1).
هكذا عندما تنزل المحن و تشتد الخطوب وتتوالى الكروب وتعظم الرزايا وتتابع الشدائد، لن يكون أمام المسلم إلا أن يلجأ إلى الله تعالى ويلوذ بجانبه، ويضرع إليه راجيا تحقيق وعده، الذي وعد به عباده المؤمنين إذ يقول الله تعالى: وقال ربكم ادعوني استجب لكم [فاطر:60]. ويقول: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون [البقرة:186]. فإني قريب ..أجيب دعوة الداع إذا دعان ..أية رقة؟ وأي انعطاف؟ وأية شفافية؟ وأي إيناس؟ وأين تقع تكاليف الحياة في ظل هذا الود، وظل هذا القرب، وظل هذا الإيناس؟ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان أضاف العباد إليه، والرد المباشر عليهم منه .. ولم يقل: فقل لهم: إني قريب ..إنما تولى بنفسه جل جلاله الجواب على عباده بمجرد السؤال فقط!، قريب .. ولم يقل أسمع الدعاء ..إنما عجل بإجابة الدعاء:  أجيب دعوة الداع إذا دعان .. إنها آية عجيبة .. آية تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة، والود المـؤُنس، والرضى الـُمطمئن، والثقة واليقين .. ويعيش منها في جناب رضيّ وقربى ندية، وملاذ أمين وقرار مكين ،قال عليه الصلاة والسلام: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا  حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له))(1) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يسأل الله يغضب عليه))(2).
أيها الأخوة في الله: في ظل هذا الأنس الحبيب، وهذا القرب الودود، وهذه الاستجابة الحية .. يلفت الله تعالى نظر عباده المؤمنين إلى قضية كبرى وهي أن قضية إجابة الدعاء معلقة  بالإستجابة التامة له، والإيمان به فقال: فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون الاستجابة الكاملة التي تعني السير على المنهج الأوحد الذي اختاره الله لعباده وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولاتتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون [الأنعام:153]. الاستجابة لله تعالى التي تعني الانقياد التام لأمره ونهيه والتسليم لقضائه والخضوع لجنابه، وبدون ذلك ربما تتعذر الإجابة.
والمتأمل في أوضاع الأمة يلحظ أنها في كثير من مواطنها وأوضاعها اختارت غير ما اختار الله، ودانت بمناهج على غير طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، اختلطت عليها السبل، واصطبغت بغير صبغة الله، تغيرت أحوالهم، وفرطوا في دينهم، أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، أكلوا الربا، وفشا فيهم الفحش والزنا ،تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،و اتبعوا خطوات الشيطان، وتمادوا في معصية الرحمن، وهذه كلها أسباب في عدم إجابة الدعاء، لأن الذنوب والمعاصي قد تكون حائلة من إجابة الدعاء(*)خاصة أكل الحرام، ذكر عبدالله بن الإمام أحمد في كتاب الزهد لأبيه: "أصاب بني إسرائيل بلاء، فخرجوا مخرجا فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم أن أخبرهم: أنكم تخرجون إلى الصعيد بأبدان نجسة، وترفعون إليّ أكفاً قد سفكتم بها الدماء، وملأتم بها بيوتكم من الحرام، الآن حين اشتد غضبي عليكم، لن تزدادوا مني إلا بعدا"(3).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((يا أيها الناس إن الله طيب لايقبل إلا طيبا))، الحديث وفيه: ((ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك))(1).
ولنا أن نتعجب كما تعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك الرجل الذي  اجتهد في الدعاء، وأخذ بأسباب الإجابة من إطالة السفر، وتواضع المظهر والتضرع في الدعاء! فتشنا تلمسنا نظرنا فوجدنا أن الرجل غارق في لجة الحرام! إذاً كيف يستجاب لمثل هذا! وهو قد جعل طعامه وشرابه وملبسه من حرام!!
عباد الله: إن إجابة الدعاء معلقة  بصدق اللجأ والتضرع إليه ،وعدم استعجال الإجابة، وصدق التوبة التي تجعلنا نعود إلى المنهج الذي ارتضاه الله لنا وسار عليه نبينا وسلكه أسلفنا، و أن نقطع الصلة بماضي الآثام، ونستصلح أنفسنا في مستقبل الأيام مع الحذر من الكسب الحرام أو الدعاء بالإثم وقطيعة الأرحام.
عباد الله: إن من المصيبة كل المصيبة والرزية كل الرزية أن يحال بين المرء وبين الدعاء عندما تنزل به الملمات وتشتد به الكروبات، فلا يضرع إلى الله ولا يلجأ إليه بأن يكشف الله ضره ويفرج همه، ولقد بين الله تعالى في القرآن نموذجاً من الواقع التاريخي، نموذج يعرض ويفسر كيف يتعرض الناس لبأس الله، وكيف تكون عاقبة تعرضهم له، وكيف يمنحهم الله الفرصة بعد الفرصة، ويسوق إليهم التنبيه بعد التنبيه، فإذا نسوا ما ذكروا به، ولم توجههم الشدة إلى التوجه إلى الله والتضرع له ودعائه، ولم توجههم النعمة إلى الشكر والحذر من الفتنة، كانت فطرتهم قد فسدت الفساد الذي لايرجى معه صلاح، وكانت حياتهم قد فسدت الفساد الذي لاتصلح معه للبقاء، فحقت عليهم كلمة الله، ونزل بساحتهم الدمار الذي لاتنجو منه ديار .. فقال تعالى: ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون  فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون  فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبسلون  فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين [الأنعام:42-45].
في هذه الأيات عرض لنموذج متكرر في أمم شتى .. أمم جاءتهم رسلهم، فكذبوا، فأخذهم الله بالبأساء والضراء، في أموالهم وفي أنفسهم ،في أحوالهم وأوضاعهم .. البأساء والضراء التي لا تبلغ أن تكون "عذاب الله" الذي هو التدمير والاستئصال.
لقد أخذهم الله بالبأساء والضراء ليرجعوا إلى أنفسهم، وينقبوا في ضمائرهم وفي واقعهم، لعلهم تحت وطأة الشدة يتضرعون إلى الله، ويتذللون له، ويدعون الله أن يرفع عنهم البلاء بقلوب مخلصة، بقلوب موقنة، فيرفع الله عنهم البلاء، ويفتح لهم أبواب السماء .. ولكنهم لم يفعلوا ما كان حريا أن يفعلوا، لم يلجأوا إلى الله، ولم يرجعوا عن عنادهم وعصيانهم، ولم تَرُدَ إليهم الشدة وعيهم، ولم تفتح بصيرتهم، ولم تلين قلوبهم، وكان الشيطان من ورائهم يزين لهم ما هم فيه من الضلال والعناد:ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون.
والقلب الذي لا ترده الشدة إلى الله، قلب تحجر فلم تعد فيه نداوة تعصرها الشدة! ومات فلم تعد الشدة تثير فيه الإحساس! وتعطلت أجهزة الاستقبال الفطرية فيه، فلم يعد يستشعر هذه الوخزة الموقظة، التي تنبه القلوب الحية للتلقي والاستجابة، والشدة ابتلاء من الله للعبد، فمن كان حياً أيقظته، وفتحت مغاليق قلبه، وردته إلى ربه، وكانت رحمة له من الرحمة التي كتبها الله على نفسه .. ومن كان ميتا حُسبت عليه، ولم تفده شيئا، وإنما أسقطت عذره وحجته، وكانت عليه شقوة، وكانت موطئة للعذاب!
وإذا كانت الشدة لم تفد في تلك الأمم فالله تعالى يملى لهم ويستدرجهم بالرخاء: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون.
إن الرخاء ابتلاء آخر كابتلاء الشدة ،وهو مرتبة أشد وأعلى من مرتبة الشدة! والله يبتلي بالرخاء كما يبتلي بالشدة قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج)) ثم تلا: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون تأمل يارعاك الله قوله: فتحنا عليهم أبواب كل شيء تلك الأرزاق والخيرات والمتاع متدفقة عليهم كالسيول، بلا حواجز ولا قيود! وهي مقبلة عليهم بلا عناء ولاكد ولا حتى محاولة!
 حتى إذا فرحوا بما أوتوا وغمرتهم الخيرات والأرزاق المتدفقة، واستغرقوا في المتاع بها والفرح لها بلا شكر ولا ذكر، وخلت قلوبهم من الاختلاج بذكر المنعم ومن خشيته وتقواه، وانحصرت اهتماماتهم في لذائذ المتاع واستسلموا للشهوات، وخلت حياتهم من الاهتمامات الكبيرة، وتبع ذلك فساد النظم والأوضاع، بعد فساد القلوب والأخلاق، وجر هذا وذلك إلى نتائجه الطبيعية من فساد الحياة كلها .. عندئذ جاء موعد السنة التي لا تتبدل أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسونفكان أخذهم على غرة وهم في سهوة وسكرة فإذا هم حائرون منقطعو الرجاء في النجاة، عاجزون عن التفكير في أي اتجاهفقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.
بارك الله. . .



(1) سلاح اليقظان لطرد الشيطان لعبدالعزيز السلمان ص138
(1) رواه مسلم ورقمه (1261) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(2) رواه الترمذي ورقمه (3295) وابن ماجه ورقمه (3817)من طريق أبي المليح المدني .. والحديث رجاله ثقات وأبو المليح وثقه ابن معين وابن حبان والذهبي .
(*) أشار إلى ذلك ابن القيم رحمه الله في كتابه الجواب الكافي ص24 .
(3) نقلا من الجواب الكافي ص25
(1) رواه مسلم ورقمه (1015) .
الخطبة الثانية

عباد الله: من أحب أن يوفق للجوء إلى الله تعالى عند الشدة والبلاء فليلزم الدعاء والتضرع إليه حال الرخاء والشكر على النعماء، وليسأل ربه اللطف في القضاء والعافية من البلاء قال عليه الصلاة والسلام: ((من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر من الدعاء في الرخاء))(1).
أيها المسلمون: لقد كان نبيكم صلى الله عليه وسلم إذا أهمه أمر رفع رأسه إلى السماء فدعا يتلمس الفرج والنجدة من رب السماء، وكم له صلى الله عليه وسلم من الدعوات عند الكروب ونوازل الخطوب فعندما آذته ثقيف جلس صلى الله عليه وسلم إلى ظل شجرة ورفع رأسه إلى السماء ضارعا يقول: ((اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي)) الحديث.
وعندما نازلته قريش في بدر رفع رأسه ويديه إلى السماء وأخذ يدعو الله ويضرع إليه حتى أتم الله له النصر وبعث إليه ملائكة تقاتل مع جيشه.
فاتقوا الله عباد الله وتضرعوا إليه، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، ولا تقعدنكم عن الدعاء الغفلة أو الركون إلى ضلال الضالين وشبه المنحرفين، فإن للدعاء أثره الواضح الفعال في تحقيق الرغائب وبلوغ الآمال، وحسبك أنه هو العبادة التي تفتح بها أبواب الرحمة إذا توجه به العبد إلى ربه راغبا راهبا نال رضاه وبلغ به فوق ما تمناه ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لايحب المعتدين  ولاتفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين[الأعراف:55-56].
هذا وصلوا على . .



(1) رواه الترمذي من حديث سلمان ورقمه (3304) وقال عنه الترمذي هذا حديث غريب .وفيه عبيد بن واقد وسعيد بن عطيه وكلاهما ضعيف .محمد.                                                                                                                                                                         


المصدر:موقع المنبر

====================================


موانع الاستجابة :



ملخص الخطبة
1- قد لا نرى إجابة لكثير من دعائنا وقد وعدنا إجابته. 2- النصر تتعدد صوره. 3- صور إجابة الدعاء كما بينها . 4- من موانع إجابة الدعاء وقوع كثير من المسلمين في الظلم وفشوه بينهم. 5- الله يمهل ولا يهمل. 6- فضل العشر من ذي الحجة والمبادرة فيها إلى الطاعات.
الخطبة الأولى


وبعد، فقد تحدثنا في خطبة سابقة عن أثر الدعاء في رفع الظلم، وفي هذه الخطبة نتحدث عن أمر هام آخر لا بد أنه تلجلج في صدور كثير من المسلمين، لا سيما الذين أقاموا أصلابهم وقت الأزمة يدعون بالهلاك والدمار على هؤلاء الظالمين الذين طغوا وتجبروا، وقتلوا النساء، وشردوا الأطفال، وذبحوا الشيوخ، وقهروا الرجال، يتسائل أولئك الإخوة لسان حالهم يقول: لقد دعونا كثيراً، وطلبنا النصر من الله فلم نر النصر يتنزل على إخواننا، ولا تحقق لنا، ولم نر الدمار حاق بأولئك الذين طالما دعونا عليهم بالهلاك، ولم نشاهد الهزيمة نزلت على أولئك الأعداء.
يتساءل هؤلاء، فمن معلن لهذا التساؤل صريحاً، ومن كاتم له بين جوانب صدره، وثنايا فكره.
وقبل الإجابة عن هذا السؤال، لابد لنا من بيان أمرين اثنين، يتضح بهما ما إذا كان هذا السؤال في محله، وأنه يحمل إشكالاً حقيقياً يحتاج إلى جواب.
الأمر الأول: نحن لا نوافق على أن النصر لم يتنزل، وأن الهزيمة لم تحق بالإعداء، إنه من الخطأ بل من أكبر الخطأ أن نحصر النصر على العدو، في نصر ذو طبيعة واحدة هي الطبيعة العسكرية، في زمان محدد ومكان محدد، إن اختزال طبيعة الانتصار في تلك المعاني الضيقة، ضيق في الأفق، وسطحية في التفكير، فكم من هزيمة عسكرية في معركة من المعارك كانت سبباً في حياة الشعوب، وانتصار الأمم، إن اليقظة العارمة التي تجتاح أفراد الأمة، وقطاعاتها المتنوعة، التي تولد في أتون الضربات الموجعة التي تلقتها الأمة، مكسب يمهد الطريق لكسب الجولة النهائية، وإن خسرت جولة أو جولات، وإنما الحرب كَرٌ وفر، ولعل الله ييسر لنا الحديث بالتفصيل عن حقيقة النصر، في خطبة قادمة.
وعليه فقد يكون ما يجري إنما هو مراحل في طريق النصر النهائي، الذي لا ندري متى يأتي، وليس بالضرورة أن نراه نحن، هؤلاء الصحابة الذين هم خير هذه الأمة، وأفضل المجاهدين، استشهد كثير منهم في بدايات الإسلام.
هذا ياسر والد عمار استشهد صبراً في أشد الأوقات وأصعبها،، وشاهده الصحابة وهو يقتل قبل قبل أن يرى وميض فجر الإسلام يلوح، ثم يقتل أولئك الذين شاهدوا هذا الموقف، فهل قال الذين رأوا هذا القتل والتشريد ولم يعلموا ما الله مخبئه عنهم من نصر بعد حين، هل قالوا: حرمنا النصر، منع عنا العز، لِم هذا القتل والتشريد، لم هذا الاسـتذلال والاستضعاف، أين نصر الله؟؟
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَاء وَٱلضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
 عباد الله، ولا بد لنا من أن نبين بعض الحقائق حول استجابة الدعاء، قبل بيان أسباب عدم استجاب الدعاء، أو أسباب تأخيرها.
فأول هذه الحقائق حول الدعاء، أن الله عز وجل تكفل باستجابة من دعاه، هذا على وجه العموم، قال الله جل وعلا: وَقَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دٰخِرِينَ[غافر:60].
ثانياً: إن استجابة الدعاء لا تعني فقط استجابة الله جل وعلا لما طلبه الإنسان مباشرة، بل قد تكون الاستجابة بطريق أخرى، أخرج البخاري في الأدب المفرد عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي  قال: ((ما من مسلم يدعو، ليس بإثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها)) قال الرواي: إذا نكثر، قال الرسول: ((الله أكثر))[1].
قال ابن حجر: "كل داع يستجاب له، لكن تتنوع الإجابة، فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارة بعوضه.
تفتح أبواب السماء ودونها                 إذا قرع الأبواب منهن قارع
إذا أوفدت لم يردد الله وفدها              على أهلها، والله راء وسامع
وإني لأرجو الله حتى كأنني                 أرى بجميل الظن مالله صانع
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ  عَنْ النَّبِيِّ  أَنَّهُ قَالَ: ((لا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لي فَيَسْتَحْسِرُ ـ أي فينقطع عن الدعاء ويتركه ـ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ)).
قال شراح الحديث: الْمَعْنَى أَنَّهُ يَسْأَم فَيَتْرُك الدُّعَاء فَيَكُون كَالْمَانِّ بِدُعَائِهِ، أَوْ أَنَّهُ أَتَى مِنْ الدُّعَاء مَا يَسْتَحِقّ بِهِ الْإِجَابَة فَيَصِير كَالْمُبْخِلِ لِلرَّبِّ الْكَرِيم الَّذِي لَا تُعْجِزهُ الْإِجَابَة وَلَا يُنْقِصهُ الْعَطَاء.
قالوا: وَفِي هَذَا الْحَدِيث أَدَب مِنْ آدَاب الدُّعَاء, وَهُوَ أَنَّهُ يُلَازِم الطَّلَب وَلَا يَيْأَس مِنْ الْإِجَابَة لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الِانْقِيَاد وَالِاسْتِسْلَام وَإِظْهَار الِافْتِقَار, حَتَّى قَالَ بَعْض السَّلَف: لَأَنَا أَشَدّ خَشْيَة أَنْ أُحْرَم الدُّعَاء مِنْ أَنْ أُحْرَم الْإِجَابَة[2].
حدث بعض الإخوة: فقال لا أعلم لي دعوة كنت جاداً فيها، ملحاً فيها، إلا واستجيبت لي، ثم قال وليس ذلك من زيادة قرب من الله، ولا من كثرة عبادة ولا زهد، بل ولا أظن ذلك علامة صلاح في نفسي، فأني أعلم أني لست من الصالحين، ليس ذلك من باب التواضع، ثم يتابع فيقول: ولكني ألهمت أن الدعاء سبب لحصول أي شيء أريده منذ صغر سني، فأصبح لدي يقين دائم، ليس في وقت الدعاء، بل في كل وقت، أن الدعاء يحقق لي ما أريد، فكنت كلما أردت شيئاً دعوت الله، حتى أني أدعو الله في أمر أريده سنة أو سنتين، ويتحقق لي ما أريد، يقول: ولست أتحدث بذلك افتخاراً، ولا ليظن بي أحد شيئاً، ولكني أريد تذكير الجميع بأن من اعتقد في الدعاء هذا الاعتقاد، ولازم الدعاء، وجعله له سجية لحصول مطلوبه، فإن الله ولا شك يستجيب له، وإن طال الزمن.
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته                    ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
إن الأمـور إذا انســدت مسالكها              فالصبر يفتح منا كل ما ارتتجا
لا تيأســن وإن طالـــت مطالبة    إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
قال بعض العلماء: يُخْشَى عَلَى مَنْ خَالَفَ وَقَالَ: قَدْ دَعَوْت فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي، أَنْ يُحْرَم الْإِجَابَة وَمَا قَامَ مَقَامهَا مِنْ الِادِّخَار وَالتَّكْفِير[3].
قال ابن الجوزي[4]: "اِعْلَمْ أَنَّ دُعَاء الْمُؤْمِن لَا يُرَدّ، غَيْر أَنَّهُ قَدْ يَكُون الْأَوْلَى لَهُ تَأْخِير الْإِجَابَة أَوْ يُعَوَّض بِمَا هُوَ أَوْلَى لَهُ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا، فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يَتْرُك الطَّلَب مِنْ رَبّه فَإِنَّهُ مُتَعَبِّد بِالدُّعَاءِ كَمَا هُوَ مُتَعَبِّد بِالتَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيض".
قال الله جل وعلا: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].
ثالثاً:إن المسلم عليه أن يدعو الله جل وعلا، بصرف النظر عن علمه باستجابة الله له هذا الدعاء مباشرة أو لا، فإن معاني العبادة التي تضمنها الدعاء، قد لا تحصل بغيره، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث الإمام أحمد: ((من لم يسأل الله يغضب عليه))، وفي الحديث الآخر عند الإمام أحمد كذلك يقول الرسول ((ليس شيء أكرم على الله من الدعاء)).
عباد الله، وبعد هذا البيان نقول، مع عدم مقدرتنا على الجزم بأن الله لم يستجب دعاءنا، فإن ذلك لا يعفينا من عدم التفكير في موانع استجابة الدعاء، لعلنا قد وقعنا في بعضها، فكان ذلك سبباًَ في تأخير إجابة الدعاء وعدم استجابته.
أيها الإخوة، إن موانع استجابة الدعاء كثيرة، ولا يتسع وقت هذه الخطبة إلا لذكر بعضها، وسنقتصر على بعضها التي يغفل عنها كثير من الناس، لاسيما تلك التي تتعلق بتأخير الإجابة على الظالمين.
فأول هذه الموانع: وقوع الظلم حتى من الذي يدعو على الظالمين.
عباد الله، لا تظنوا أن الظلم هو ما يمارسه الملوك والأمراء، أو ما تمارسه الأنظمة والحكومات ضد الشعوب، والأفراد، بل إن الأفراد يظلمون، ويتنوع ظلمهم، والله لا يحب الظالمين سواء كانوا من الحكام أو المحكومين، سواء كان من المسلمين، أو من الكافرين، وكل وضع للشيء في غير موضعه فهو ظلم، فتخيلوا كم من الظلم نمارسه نحن، ونحن غافلون لاهون.
قال المقريزي: جاءني أحد الصالحين، سنة ثلاث عشرة وثماني مائة، والناس إذ ذاك من الظلم في أخذ الأموال منهم ومعاقبتهم إذا لم يؤدوا أجرة مساكنهم التي يسكنوها حتى ولو كانت ملكاً لهم،  بحال شديدة، وأخذنا نتذاكر ذلك فقال لي: مالسبب في تأخر إجابة دعاء الناس في هذا الزمان، وهم قد ظلموا غاية الظلم، بحيث أن امرأة شريفة عوقبت لعجزها عن القيام بما ألزمت به من أجرة سكنها الذي هو ملكها، فتأخرت إجابة الدعاء مع قول الرسول ((اتق دعوة المظلوم, فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) وها نحن نراهم منذ سنين يدعون على من ظلمهم، ولا يستجاب لهم.
قال المقريزي: فأفضينا في ذلك حتى قال: سبب ذلك أن كل أحد صار موصوفا بأنه ظالم، لكثرة ما فشا من ظلم الراعي والرعي، وإنه لم يبق مظلوم في الحقيقة، لأنا نجد عند التأمل كل أحد من الناس في زماننا وإن قل، يظلم في المعني الذي هو فيه من قدر على ظلمه، ولا نجد أحداً يترك الظلم إلا لعجزه عنه، فإذا قدر عليه ظلم، فبان أنهم لا يتركون ظلم من دونهم، إلا عجزاً لا عفة.
قال المقريزي: ولعمري لقد صدق رحمه الله، وقد قال المتنبي قديماً:
والظلم من شيم النفوس، فإن تجد ذا عفــة فلعلـه لا يظلـمُ
هل سمعتم يا عباد الله، هل سمعتم، اسمعوا وتفكروا، وليفتش كل منا عن نفسه، وعن الظلم الذي يمارسه في حياته، ولولا ضيق الوقت لذكرنا بعض صور الظلم التي نمارسها في حياتنا، ولعل الله ييسر ذلك في خطبة قادمة، لكن لعل في ذلك ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
قال بعض الصالحين: إن ظللت تدعو على رجل ظلمك، فإن الله تعالى يقول: إن آخر يدعو عليك، إن شئت استجبنا لك، واستجبنا عليك، وإن شئت أخرتكما إلى يوم القيامة، ووسعكما عفو الله[5].
قيل لإبراهيم بن نصر الكرماني: إن القرمطي دخل مكة، وقتل فيها، وفعل وصنع، وقد كثر الدعاء عليه، فلم يستجب للداعين؟ فقال لأن فيهم عشر خصال، فكيف يستجاب لهم، قلت وما هن؟
اسمعوا أيها المؤمنون، اسمعوا أيها الداعون، اسمعوا أيها اليائسون:
قال إبراهيم: أوله: أقروا بالله وتركوا أمره، والثاني: قالوا نحب الرسول ولم يتبعوا سنته، والثالث: قرؤوا القرآن ولم يعملوا به، والرابع: زعموا حب الجنة، وتركوا طريقها، والخامس: قالوا نكره النار وزاحموا طريقها، والسادس قالوا: إن إبليس عدونا، فوافقوه، والسابع: دفنوا موتاهم فلم يعتبروا، والثامن اشتغلوا بعيوب إخوانهم، ونسوا عيوبهم، والتاسع جمعوا المال ونسوا يوم الحساب، والعاشر: نفضوا القبور، وبنوا القصور.
ثانياً: من أسباب تأخير إجابة دعاء المظلومين على الظالمين، ما قاله الله جل وعلاوَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَـٰفِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّـٰلِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلابْصَـٰرُ  مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء [إبراهيم:42، 43].
قيل لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب : كان أهل الجاهلية يدعون على الظالم، وتعجل عقوبته، حتى إنهم كانوا يقولون: عش رجباً ترى عجباً، أي أن الظالم تأتيه عقوبته في شهر رجب، كناية عن قرب نزول العقوبة به، قالوا له: ونحن اليوم مع الإسلام ندعو على الظالم فلا نجاب في أكثر الأمر، فقال عمر : هذا حاجز بينهم وبين الظلم، إن الله عز وجل لم يعجل العقوبة لكفار هذه الأمة، ولا لفساقها، فإنه تعالى يقول: بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ [القمر:46]
وقد يكون من سبب تأخير استجابة الدعاء عليهم أن الله عز وجل أراد لهم أشد العذاب، ولما يبلغوا درجته الآن، فيمهلهم الله حتى يبلغوا تلك الدرجة من البغي والطغيان، حتى يستحقوا ذلك الدرك من النار الذي أعده الله لهم.
وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [آل عمران:178]
ثالثاً: من أسباب تأخير استجابة الدعاء على الظالمين، أننا نحن الذين نظن أن الاستجابة قد تأخرت لأن الأيام في منظور البشر طويلة، بينما هي في عين الله قصيرة، وقد قال الله جل وعلا:  وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ ٱللَّهُ وَعْدَهُ [الحج:47]---- ولكن يتساءل الناس متى ثم تأتي الإجابة ---وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ  وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظَـٰلِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَىَّ ٱلْمَصِيرُ [الحج:47، 48].
قال بعض أهل التفسير كان بين دعاء موسى على فرعون، وبين إهلاك فرعون بالغرق أربعون سنة[6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا...

 


 


[1] صحيح الأدب المفرد، وهناك روايات أخرى في صحيح الجامع.
[2] فتح الباري.
[3] فتح الباري.
[4] نقله عنه ابن حجر في فتح الباري.
[5] حلية الأولياء.
[6] الطبري عن ابن جريج، والبغوي، وابن الجوزي في زاد المسير.
الخطبة الثانية

الحمد لله الذي هدى أولياءه لدين الإسلام، أحمده وأشكره على توفيقه وهدايته وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن نبينا محمداً رسول الله الأمين اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، عباد الله، بين أيدينا أيام فاضلة، يغفل عنها كثير من الناس، وعما فيها من فضل، ومن غفل عن بعض ما فيها من فضل فإنه غافل عن العمل الجاد فيها، وهي من أعظم المواسم التي منحها الله لعباده لتقربوا بها إلى جنابه، وينطرحوا عند بابه، ويالخسارة من يدعوه ملك الملوك إلى كسب ما عنده من أنواع النعم، والملذات التي لا تفنى ولا تبيد ثم هو يفرط فيها ويعرض عنها، ولو دعاه ملك من ملوك الأرض لخدمته مقابل دراهم معدودة، لا تلبث أن تنقضي فإذا هو يسارع إليها مسارعة من يهرب من الموت.
هذه الأيام يا عباد الله هي أيام عشر ذي الحجة، التي تدخل علينا بعد أربعة أيام أو خمسة، في صحيح البخاري عن ابن عباس  قال، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : (مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَ فِي هَذِهِ الأيام، قَال: الصحابة (وَلَا الْجِهَادُ)؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ.
قال ابن رجب رحمه الله: "دل هذا الحديث على أن العمل في أيامه أحب إلى الله من العمل في أيام الدنيا من غير استثناء شيء منها، وإذا كان أحب إلى الله فهو أفضل عنده[1].
عباد الله، وقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن أيامها أفضل من أيام العشر  الأواخر من رمضان، وأن ليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من لياليها.
 وقد أخرج البزار عن جابر بن عبد الله  عن رسول الله  أنه قال: ((أفضل أيام الدنيا أيام العشر))[2] يعني عشر ذي الحجة وهو حديث صححه الألباني.
ولأجل ما في هذه الأيام من فضل فقد كان السلف الصالح يستثمرون الأوقات فيها بخير عمل، فقد كان سعيد بن جبير رحمه الله إذا دخلت العشر اجتهد اجتهادًا حتى ما يكاد يقدر عليه، وروي عنه أنه قال: (لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر)[3] كناية عن القراءة والقيام.
قال ابن رجب رحمه الله: "لما كان الله سبحانه وتعالى قد وضع في نفوس المؤمنين حنينًا إلى مشاهدة بيته الحرام، وليس كل أحد قادرًا على مشاهدته كل عام، فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره، وجعل موسم العشر مشتركًا بين السائرين والقاعدين، فمن عجز عن الحج في عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته، يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج".
فمن الأعمال الفاضلة التي ينبغي للمسلم أن يحرص عليها في عشر ذي الحجة:
1- الصيام وهو لا شك من أفضل الأعمال.
وقد ورد أن النبي  كان يصوم تسع ذي الحجة. فعن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان النبي  يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر. أول إثنين من الشهر والخميس " [أخرجه النسائي (4/205) وأبو داود وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2/462)].
2- التكبير: في مسند الإمام أحمد وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ((ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)).
قال البخاري رحمه الله: "كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما. والمراد أن الناس يتذكرون التكبير فيكبر كل واحد بمفرده وليس المراد التكبير الجماعي بصوت واحد، فإن هذا غير مشروع.
وعن يزيد بن أبي زياد قال: رأيت سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهدًا ـ أو اثنين من هؤلاء الثلاثة ـ ومن رأينا من فقهاء الناس يقولون في أيام العشر: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
عن ميمون بن مهران قال: أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتها، ويقول: إن الناس قد نُقِصوا في تركهم التكبير.
قال ابن القيم رحمه الله: "وهي الأيام العشر التي أقسم الله بها في كتابه بقوله: ٱلْفَجْرِ  وَلَيالٍ عَشْرٍ [الفجر:1، 2]، ولهذا يستحب فيها الإكثار من التكبير والتهليل والتحميد".
ويسن الجهر بذلك في المساجد والمنازل والطرقات وكل موضع يجوز فيه ذكر الله إظهاراً للعبادة، وإعلاناً بتعظيم الله تعالى.
ويجهر به الرجال وتخفيه المرأة.
وصفة التكبير: الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد، وهناك صفات أخرى.
والتكبير في هذا الزمان صار من السنن المهجورة ولا سيما في أول العشر، فلا تكاد تسمعه إلا من القليل، فينبغي الجهر به إحياء للسنة وتذكيراً للغافلين.
عباد الله، ويتأكد الإكثار من الأعمال الصالحة عموماً، لأن العمل الصالح محبوب إلى الله تعالى وهذا يستلزم عِظَم ثوابه عند الله تعالى. فمن لم يمكنه الحجّ فعليه أن يعمر هذه الأوقات الفاضلة بطاعة الله تعالى من الصلاة وقراءة القرآن والذكر والدعاء والصدقة وبر الوالدين وصلة الأرحام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من طرق الخير وسبل الطاعة، والتوبة النصوح، والإقلاع عن الذنوب والمعاصي، وكثرة الاستغفار من الذنوب والمعاصي.

 


[1] لطائف المعارف.
[2] (البزار) عن جابر. تحقيق الألباني (صحيح) انظر حديث رقم (1133) في صحيح الجامع.‌
[3] حلية الأولياء.


المصدر:موقع المنبر
================================================

آفة الإستعجال
فضيلة الشيخ د. سفر بن عبدالرحمن الحوالي


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، أما بعد:
فنحمد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي وفقنا للإيمان به، والتمسك بكتابه، واتباع سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما نحمده حيث يسَّر المراكز التي احتضنت الشباب فربتهم وغذتهم، ووسعت مداركهم، وفقهتهم في دينهم، وحفَّظهم من كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونمّت عقولهم وأجسامهم، فشكر الله تعالى للقائمين عليها، وأجزل مثوبتهم عنده، ووفق جميع الآباء والطلاب للالتحاق بها وبأمثالها إنه سميع مجيب.

ثم إن من الموضوعات المهمة: منهج الدعوة، والأسلوب الصحيح في إنكار المنكر، وفي فقه الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وفي طلب العلم، وكل ما من شأنه أن يكون منهجاً مسدداً صائباً وفق منهج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

من الموضوعات المهمة في فقه الدعوة: ما يتعلق بالاستعجال، فهذا أمر جدير بالبحث والمطارحة والمناقشة من الجميع، وسوف أذكر إن شاء الله ما يسر الله لي ولو بإشارات إلى رءوس الموضوعات.

أول ما نقوله في هذا الشأن: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال: خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء:37]، وقال عز وجل: وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً [الإسراء:11] فالإنسان بطبيعته عجول، والنفس الإنسانية بطبيعتها عجلة، وهذا أمر جعله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها لحكمة عظيمة، لا نستطيع الآن أن نستعرضها، ولكن حكمة الله أن يكون في الإنسان هذا الطبع وهذه الصفة وهذه الغريزة.

ولو أن الناس لم يمنحهم الله تبارك وتعالى العقل والأناة، لأكلوا الثمار قبل أن تنضج، ولربما أكلوا الطعام قبل أن ينضج، إذ في الإنسان هذا الطبع، فإذا كان في طبع الإنسان باعتباره إنساناً أياً كان مؤمناً أو كافراً أن يستعجل، وخلق من عجل، فهذا يوضع في الاعتبار بالنسبة للإخوة الدعاة وبالنسبة للناس المدعوين.

أما بالنسبة للدعاة فيجب أن يحمل بعضنا بعضاً على المحمل الحسن، وإذا رأينا هذا الاستعجال من أنفسنا أو من إخواننا الدعاة، فلنعلم أن الطبيعة البشرية قد غلبت جانباً آخر، فلنذكِّر أنفسنا به، وهو "الحكمة والأناة"، حتى لا تغلبنا هذه النزعة وهذه العاطفة.

وبالنسبة للمدعوين نحتاج إلى أناة، إننا نريد أن نقول الكلمة اليوم فنرى أثرها عاجلاً الآن أو غداً، نريد أن نقول للناس: هذا حرام، فينتهي الجميع عنه، أو نقول لهم: هذا واجب، فسرعان ما نجدهم قد فعلوه، وامتثلوا أمر الله فيه.

والأمر ليس كذلك أبداً، فلِكَوْنِ الاستعجال من طبيعة البشر، ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في القرآن بياناً شافياً كافياً له احتى يغير به الأمور والأحوال.


ومن ذلك ما ذكره الله في آيٍ كثيرة أن الرسل الكرام عندما يدعون أقوامهم إلى الله وتوحيده يخوفونهم من عذاب الله، وينذرونهم عاقبة المعاصي، والظلم، والجور، والفساد، فإن الجواب عند كثير من الأمم هو استعجال العذاب وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47].
انظر حلم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وسنن الله! يستعجلون أن تحل بهم العقوبة، ولهذا جاء الرد عليهم في آيٍ كثيرة، قال الله تبارك وتعالى: أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:204-207].

سبحان الله! يستعجلون بالعذاب اليوم، لو فكروا كم سيعيشون، أرأيت إن أمهلهم الله وجعلهم يتقلبون في البلاد؟! أهذا يعني أنه لن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر؟! سبحان الله! أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ [الشعراء:205] هب أن الأمر كان كذلك ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:206-207] هنا المحك، وهنا المعيار.

سل من تمتع وتقلب في أنواع الملذات العمر كله، لحظة أخذ الله له أخذ عزيز مقتدر، هل أغنى عنه ذلك المتاع شيئاً؟! قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ [يونس:50]، فإذا أتاه العذاب تذهب تلك النعمة، وتلك اللذات والشهوات، ولهذا في الحديث الصحيح: {أنه يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الأرض من أهل الدنيا، وهو من أهل النار، فيغمس في النار غمسة واحدة، فيقال له: هل رأيت نعيماً قط؟ هل ذقت نعيماً قط؟ فيقول: لا والله، ما ذقت نعيماً قط والعكس، يؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيغمس في الجنة غمسة واحدة، يقال له: هل رأيت بؤساً قط؟ هل مرَّ بك شدة قط؟ فيقول: لا والله! ما ذقت بؤساً قط }.

إذاً العبرة بالنتائج، فلماذا نستعجل؟

فالمشركون يستعجلون العذاب في معرض التحدي للرسل، وأن الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- غير صادقين فيما يعدون به من العذاب، والرسل الكرام يحذرونهم ويبينون لهم أن هذا الإمهال ليس إهمالاً، وأن التأخير ليس إغفالاً، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يمهلهم، ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته؛ ولذلك يضرب المثل بالأمم التي سبقت من قبلنا تنعمت وعصت أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:6-14]، فلم الاستعجال إذاً؟!

ألا ترون ما فعل الله بحضارة عاد؟! وهي من الحضارات المندثرة، التي يحكى عنها الغرائب، كما قال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه لما دخل مدينة دمشق ورأى ما فيها من النعمة والترف بالنسبة إلى ما كان يراه في المدينة ، [[يا أهل دمشق ، ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون؟! إن الأمم قبلكم قد بنوا فشادوا، وجمعوا فأوعوا، وإنه قد بلغنا عن عاد أنهم بنوا لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، فمن منكم يشتري تركة آل عاد بدرهمين؟ ]] لا أحد، لأنه لا وجود لها، فقد محيت، وذهب بها الله.

و الحضارة الفرعونية إلى الآن، لم يصل العلم الحديث إلى كثير مما كانوا يتعاملون به مع التقنية واستخدام العلم، مثل تحنيط الموتى، ومثل تفريغ الهواء.

فإلى الآن يعجب العلم الحديث كيف وصلوا إلى ما وصلوا إليه، وهم الآن قد ذهبوا، وقد كانوا يستعجلون العذاب! كما أن الكفار في كل زمان ومكان يستعجلون العذاب، ويرون أنه تأخر.

وإذا طال عليهم الأمد وقست قلوبهم ونسوا وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ووعيده، ركنوا إلى الدنيا وإلى الملذات والشهوات، وغفلوا عن كل ما جاء من عند الله فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:44] تأتيهم الخيرات -وهذا الواقع الآن- الحضارة الغربية اليوم عندما نقول للناس: إن الغرب سيسقط، إن الغرب ليس بدائم؛ لأنه يعصيالله، ولأن عذاب الله تعالى الذي دمر الحضارات جميعاً سيدمره، يرى بعض المتفرنجين أو المتربين على آرائهم وأفكارهم، أن هذه الحضارة تملك مقومات الأبدية أو شبه الأبدية، نعم فيها مقومات لأن تستمر إلى ما شاء الله، لكن لا بد من يوم يأخذهم الله تبارك وتعالى فيه إلا أن يؤمنوا بالله وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهكذا كل حضارة وكل أمة.

فالكفار يستعجلون العذاب، وهو واقع بهم لا محالة، ويرون ما أعده الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من العذاب بعيداً، سواءً عذاب الدنيا أم عذاب الآخرة، وهو أشد قال تعالى: وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر:46]، وقال تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً*وَنَرَاهُ قَرِيباً [المعارج:7-8] هذا شأنهم وهذا حالهم.


وأما ما يتعلق بالمؤمنين فإن استعجالهم من نوع آخر، وهو استبطاء النصر من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، فهو قريب لكنهم يستعجلون.
{ولهذا جاءوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو متوسد في ظل الكعبة، فقالوا: يا رسول الله! ادع الله على قريش! وشكوا إليه ما وجدوا، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والله ليتمن الله هذا الأمر حتى تسير الظعينة أو الراحلة من صنعاء إلى حضرموت ، ولكنكم قوم تستعجلون }، لا تستعجلوا، وقد أتم الله تعالى هذا الدين.

{جاء سراقة بن مالك وقد منَّى نفسه بالمائة ناقة، وتبع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعد أن حدثت الآية العظيمة، وساخت قوائم فرسه، يقول له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِوَسَلَّمَ : أبشر بسواري كسرى، يا سراقة أمن أجل الدنيا تأتي }.

فوعده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسواري كسرى، خيال!!! سواري كسرى! من يحلم أن يرى كسرى؟! من كان يطمع من العرب أن يذكر كلمة كسرى؟! وكسرى أين هو؟!

شيء فوق الخيال! وهذا الأعرابي يُوعَد به.

وممن يُوعَد به؟!!

يوعد به من رجل خرج خائفاً لينجو بنفسه صلوات الله وسلامه عليه، ومعه الصديق ، خرجوا خشية أن يقتلهم الذين كفروا أو يثبتوهم، سبحان الله!

في هذه الحالة! وهل أمنت على نفسك؟!

هذا هو المنطق البشري، منطق الذين يقولون دائماً: الأمر حسابات، واعتبارات وخطط.

أنت الآن تريدني أن أرجع، حتى لا أقبض عليك، وحتى لا أدل قريشاً عليك، وتعدني مع ذلك بسواري كسرى!

ولم يقل بعد جيل أو جيلين، انظروا إلى أين يؤدي ضعف الإيمان دائماً والاتكال على الأسباب المادية، وعلى النظرة المادية مهما كان عمق التخطيط، كما يظن، فلله تعالى حكم وسنن أعظم من ذلك كله، وفعلاً: لبس سراقة سواري كسرى. الله أكبر!

وعندما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحفر الخندق هو وأصحابه، بشرهم أيضاً بفتح كسرى، وإيوانه.

قال المنافقون: هذا محمد وأصحابه يعجز أحدهم أن يقضي حاجته، ويعدهم بقصور كسرى!

انظروا ضعف الإيمان، وضعف الثقة بالله، والنفاق!! ومع ذلك حقق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذلك، كما تعلمون -والحمد لله- وصدق فيهم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبشارته: {إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل }.

لا تستعجلوا..! الكنوز والحضارات التي تبنى، والمليارات التي يملكها الكفار، والذي نفسي بيده إن صدقنا مع الله لتنفقن في سبيل الله!

هذه التي جمعت من حرام، أو ربما جمعها الكفار من أموال المسلمين، لا نستعجل: { والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل }، فيكون الأمر عكس ما أملوا، جمعوها ليقاوموا بها الدين والإسلام، فالله عز وجل يجعلها غنيمة للإسلام والمسلمين. يستعينون بها على الجهاد في سبيل الله.

لو خرج المسلمون يريدون أن يأكلوها أو يتمتعوا بها ما أُورثوها، ولذلك في هذا الحديث تنبيه للمؤمنين، { لتنفقن كنوزهما في سبيل الله } فإن قاتلنا فلله، وإن غضبنا فلله، وإن دعونا فلله، وإن رضينا فلله، الكل في سبيل الله، لو خرجوا يطلبون الغنائم، والمتاع الدنيوي ما أُعطوا شيئاً، أو لو كانوا عند أول غنيمة، اقتسموها واختصموا فيها، وما الذي وقع في بلاط الشهداء؟

أثقلوا بالغنائم حتى عجزوا عن حملها!

وأقول: استعجال المؤمنين أو استبطاؤهم لنصر الله هذا -أيضاً- مما يجب أن يبين بالأدلة وفقه الدعوة الصحيح أنه مخالف لسنة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإن كان هو حق قال تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا [يوسف:110]، نعم يأتي اليأس، ويأتي الشعور بأن الأمر قد فرغ، وأنه لا حيلة بعد ذلك، وربما وقع في القلوب أن النصر قد تأخر.. ولكن نقول: لا يجوز للإنسان أن يفقد أمله في الله، وأن يستبطئ نصر الله ووعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
على الإخوة الدعاة -وفقنا الله وإياهم- أن يعالجوا هذا الأمر مع الأحداث النازلة هذه، وفي كل حدث وفي كل موقف، ومع كل إنسان يدعوه، وأن يعالجوا هذه الغريزة وهذه العاطفة بعدم الاستعجال في أي شيء في تكوينك الشخصي والعلمي وغيره.
بعض الإخوان يقول: أريد أن أحفظ القرآن كله، وأن أكون في العلم إلى حد كذا وكذا، يستعجل ليصل إلى مستوى معين من العلم، فإذا لم يتسن له ذلك -ولن يتسنى طبعاً إلا وفق سنة ربانية معينة- ما جعله الله فيه من مواهب ومن طاقات، وما أعطاه من وقت وإمكانيات، فإذا لم يأته لِمَا أراد واستعجل، فربما قنط، وربما ترك ذلك ولم يكمله.. ففي معالجتك لأي حدث من الأحداث لا تستعجل!

لِـمَ الاستعجال، قبل أن ترى الحدث كله وأبعاده وما وراءه، قبل أن تلقى أو تسأل من هو أعرف منك، وأبصر منك بهذا الأمر؟! لا تستعجل في الحكم، ولا تتسرع.

هناك خصلتان يحبهما الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث أشج عبد القيس الحلم والأناة، فقال: {إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة }، الأناة: الروية، لا يندم الإنسان عليها أبداً، فإذا دعوت إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فكن حليماً ولا تستعجل.

رُبَّ مجرم ينقلب خيراً للدعوة -وهذا ما وقع والله- وينقلب سيفاً بتاراً على أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وعلى دعاة الشر والفساد، لكن بعد صبر من الدعاة عليه، حتى يفقه الحق، وحتى يستجيب له، وحتى يعرف أنه لم يُدع إلا إلى خير الدنيا والآخرة، فلا بد من الأناة.

أما الاستعجال في القرارات الفردية الشخصية، بأن يستعجل الإنسان في قرار ما، ثم يندم عليه، وكذلك الاستعجال في قرارات الدعوة، فيريد أن يرى الإجابة فوراً، ويريد الاستقامة حالاً، أو الاستعجال في سنن الله التي لم تتغير أبداً.

لقد وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المؤمنين بالنصر إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر:51] لكن الإنسان يقول: لماذا لم يأتٍ النصر؟!! يريده الآن..!

فهذا الاستعجال آفة يبتلى بها الناس ولا ينبغي للدعاة بالذات، ولكل من يقرأ كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقع فيها، وإنما الواجب من الجميع أن يتأملوا سنن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في تغيير الأنفس وفي تغيير المجتمعات.

إننا نحن اليوم والأمة الإسلامية تواجه أعداءها من الشرق والغرب أنستعجل النصر، ونستعجل ما عند الله، وما وعد الله به المؤمنين، ونستعجل كيف نعمل وماذا نعمل؟! مع أن الواجب أن نأخذ الأمور بحكمة وبهدوء وبروية، ونقرأ التاريخ، فنأخذ منه العبرة والعظة، كيف غيَّر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الأحوال؟! عندما كانت حملات التتار، أو الحروب الصليبية، أو ما كان قبلها من المعارك أو ما بعدها، لقد جعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سنناً للتغيير، وقد ألمحت إلى هذا في محاضرة عن الحروب الصليبية.


مما رأيته من سنن الله تعالى أن جيل الهزيمة لا ينتصر هو لكن ينبثق النصر منه.
فهو أول من يشعر بمرارة الهزيمة ومرارة الذل، وهذه من نعم الله.

               وربما صحت الأجساد بالعلل 


فتأتي مصيبة، وتأتي نكبة، وتأتي مشكلة، فيبدأ الشعور بالتقصير، والشعور بوجوب الأخذ بما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فتبدأ الانطلاقة من هنا، ولكي يكون النصر نهائياً يحتاج إلى أمد بعيد وإلى زمن طويل، لا نحدده ولا نقيده بسنوات معينة، لكن هو على أية حال يحتاج إلى صبر وإلى أناة.

ومن هنا كان الواجب أنه في كل حدث، وفي كل مرحلة، وفي كل وقت، ألاَّ ننسى دائماً القواعد الأساسية التي عليها يبنى أي عمل مهما كان.

ومن أعظم القواعد في ذلك، أن توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الأساس الذي يكون منه الانطلاق في الدعوة، والجهاد، وأن التوبة، والإنابة، والضراعة، والاستغفار، وترك الذنوب والمعاصي، والإقلاع عما حرم الله ومحاسبة النفس، كل هذا لا بد أن نستصحبه في كل حال.

إذا اراد الفرد في ذاته أن يطلب العلم، فالاستعجال بالتوحيد أول واجب.

إذا أراد أن يجاهد فالتوحيد أول واجب.

إذا أراد أن يدعو فالتوحيد أول واجب.

إذا أراد أي أمر من أمور دنياه فأول شيء لا بد أن يبدأ بالتوحيد، ثم بعده يأخذ بسنن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في التغيير، ولله تعالى سنن في ذلك.

فالجيل الأول جيل الهزيمة أو جيل السقوط لا يفعل شيئاً، ولهذا رأينا الهزيمة المدمرة التي مرت بالعالم الإسلامي، كما حدث عام (67) الأيام الستة وما تسمى نكبة وهزيمة ونكسة، إلى آخر ما قيل، فابتداءً منها ولدت الصحوة الإسلامية والعودة إلى الله.

انهارت النظم القومية والاشتراكية، والدعاوى الباطلة، الوافدة المستوردة، وبدأ الناس يفيقون، ويفكرون بالعودة إلى الله.

ولننظر كم نحتاج؟ فإلى الآن لم نصل إلى حد أن نكون أهلاً للنصر؛ لأن المسألة تحتاج إلى طول وقت، ولذلك لما أُخذت القدس في الحروب الصليبية الأولى، وقبل أن يأخذوا القدس أخذوا مناطق أنطاكية ، وأجزاء الشام العليا.

ومرت سنوات حتى ظهر نور الدين ، ثم جاء بعد نور الدين ، صلاح الدين .

ثم كانت حطين في النهاية، ثم بعد حطين كان دخول بيت المقدس .

إنها سنن وإعداد مادي، وإعداد علمي، وإعداد أدبي، فعند قدوم الصليبيين كانت هناك مدرسة واحدة في دمشق تعادل كلية كما نسميها اليوم، ودمشق عاصمة الشام ، ولم يكن فيها إلا مدرسة واحدة للعلم وللحديث.

فلما كانت أيام صلاح الدين ، كانت المدارس تقارب مائة مدرسة، فلماذا نغفل عن هذا الجانب؟!

ننظر دائماً أن صلاح الدين جمع الجيوش وانتصر، هذا حق وهذا جانب لا يمكن أن يغفل، لكن هل يمكن أن يكون هذا النصر وهذا الجيش لولا أن هناك أمراً آخر حدث في الأمة؟!

لقد حدث تغيير أساسي في الأمة، وهو رجوعها إلى العلم وإلى طلب العلم، وإلى الدعوة وإلى الخير.

وهؤلاء العلماء وهؤلاء الدعاة هم الذين حرَّكوا الأمة، فهم العصب الذي يحرك هذه الأمة ويجمعها، ويوحدها على الخير بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد كان ابن قدامة رحمه الله صاحب المغني في ميمنة صلاح الدين .. فاجتمع العلماء على الكتاب والسنة، واجتمع حولهم طلبة العلم على ما اجتمعوا عليه من الحق، فاجتمعت القيادة المؤمنة، مع الدعاة الصادقين، مع طلبة العلم، فكان النصر بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

وهذا الذي يجب أن نفكر فيه دائماً، وأن نسعى إليه دائماً، وألاَّ نتيح لأنفسنا ولعواطفنا مجالاً للاستعجال، وقطف الثمرة قبل أن تنضج، مهما كان الأمر، ومهما كانت رغبتنا في تحقيقها وفي قطفها، فهذه سنن ربانية، ولا بد أن تتحقق بالنسبة للفرد وبالنسبة للمجتمع، وكل العالم يدرك هذه السنن نوعاً من الإدراك.

فعندما بدأت اليابان تخطو خطواتها في ملاحقة الغرب، بدأت -وهي تدرك هذا الشيء- وصبرت على الابتعاث وعلى التبعية للغرب، حتى أصبحت منافساً له.

بدأت كوريا من نفس النقطة، وبدأت غيرها من الدول، وهي دول لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر، لكن أدركت السنن، وأنه لابد من إعداد خطة أو منهج، ثم الصبر عليه حتى يؤتي ثماره، دون استعجال تكون فيه النهاية، وتكون فيه الانتكاسة والبدء من جديد.

أقول: إن الاستعجال يحتاج إلى حديث طويل، فنحتاج إلى أن نتحدث عن الاستعجال في أمورنا الخاصة، كالاستعجال في الزواج أحياناً، والاستعجال في قرار دخول الكلية، الاستعجال في قرار يتعلق بحياتك الشخصية، أو بإقامتك لمشروع ما، أو بأي عمل من الأعمال، لكن هذا مجاله طويل.

وقد حاولت أن أركز الحديث في القضية الأساسية التي يجب أن تكون دائماً محور حديثنا وموضوعنا.


المواطن المحمودة للاستعجال
السؤال: هل توجد مَوَاطن محمودة للاستعجال؟
الجواب: الاستعجال الذي تكلمنا عنه، غير المبادرة إلى اتخاذ العمل الصائب والقرار الصائب في وقته المناسب، فلا يفهم أننا كنا نتكلم عن ذلك، فمثلاً من أكثر الناس حلماًالأحنف بن قيس رضي الله عنه، كان مشهوراً بالحلم في الجاهلية والإسلام، حتى ذكر في سيرته أنه كان يوماً محتبياً، فجيء له بابنه وقد قتله ابن أخيه، فلم يفك حبوته.

وقال يا بني، قتلت أخوك!

ثم قال: اذهبوا إلى أم فلان، فإن رضيت، وإلا فأعطوها الدية، ولم يحل حبوته.

وقيل له: نراك حليماً! قال: "نعم إلا في ثلاث": وهذه الأشياء لا بد فيها من المبادرة وغيرها كثير، لكن هذه يذكرها على سبيل المثال:

- الضيف إذا قدم: فهل تقعد وتتكئ والرجل واقف عند الباب؟! هذا ليس بحلم! ولاتقل: هذا من الاستعجال، بل قم وانهض، ورحب.

وعند الجنازة: وهذه هي السنة، الاستعجال في الدفن، وألاَّ تتأخر.

والبنت إذا أدركت: البنت إذا أدركت تُزوج، وهذه مفقودة الآن، إذا جاءها الخطيب، قال وليها: لا، حتى تكمل الكلية، بينما هي أدركت في المتوسطة.

وهذا في التعامل الشخصي، وكل إنسان منا يمكن أن تحصل له مثل هذه الأمور.

فالحلم والأناة لهما موضعهما، وأما المبادرة فأحياناً يحتاج الأمر إلى مبادرة، ويحتاج إلى عجلة لئلا يفوت؛ لأن هناك أموراً حاسمة، لو فاتت وذهب وقتها، لم تعد تجدي شيئاً.

ومن ذلك: أمور مجابهة أعداء الله تعالى في الحرب، وقد ضرب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه أروع المثل في ذلك.

والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء في يوم بدر ، ونزل إلى الماء، وجعل الماء من ورائه، وسبق قريشاً إليه.

وهناك أمور وخطط، فيجب أن نواجه أعداء الله ونبادر إلى ذلك، ونحث الهمة ونرفعها، ونجتهد في أن نحقق أكبر قدر، وأكبر نصيب من الخير قبل أن يسبقنا عليه الآخرون، فلا تعارض بين هذا وهذا، بل الحكمة المطلوبة دائماً أن تكون الأناة في موضعها، وأن يكون الاستعجال في موضعه.

ولكن لما كان الاستعجال من حيث هو طبع غالب، فهو الذي يحتاج الحديث عنه لتقف النفوس عند مواقف معينة، فلا تغلبها هذه الطبيعة وهذا الدافع، فتنسى ما ينبغي أن تكون عليه، إذ الأصل أن يكون الإنسان حليماً، وكما نرى أي إنسان منا يذهب إلى آخر، ويراه يتعامل مع قضية بهدوء وبأناة، ثم ينتجها ويحكمها، يُسَرُّ منه، أكثر مما لو رآى أحداً استعجل ثم لم تثمر عجلته شيئاًًً.




 سبل معالجة الاستعجال
السؤال: ما هي السبل أو الأسس التي يستطيع بها الإنسان أن يعالج الاستعجال؟
الجواب: هذا يحتاج إلى التربية والتكوين، فالفرد منا -وكذلك الأمة- يحتاج إلى تربية، وإلى تكوين يستطيع به أن يميز بين مواضع العجلة ومواضع الأناة ومواضع المبادرة، بحيث يستطيع أن يضع الشيء في موضعه، فلذلك لا بد من هذا التكوين للفرد، ولا بد منه للأمة.

ومن ذلك أن ندرس ونقرأ ونتأمل سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحياة الأنبياء وجهادهم -صلوات الله وسلامه عليهم- وجهاد الصحابة والتابعين وصبرهم، وسير العلماء.

فالإنسان منا عندما يقرأ في صفة الصفوة ، أو طبقات ابن سعد ، ويرى هذه السير، يجد العجب العجاب، ويجد أمثلة حية.

أولئك الرجال الذين وهبهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذه القلوب الكبيرة، وهذه النفوس العالية، وهذه الهمم العظيمة، مع الأناة والهدوء وعدم الاستعجال، حققوا ما لم تحققه أجيال ولا أعمار!

فلو أعطي أمثالنا أو من المتأخرين أضعاف أعمار أولئك، ما حققوا مثلما حققوا، فسبحان الله العظيم! كيف كان هؤلاء الناس؟!

أقول: هذه النماذج مما يكوّن لدينا ذلك التكوين والتربية عليه، وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، وإنما الصبر بالتصبر }.

كل إنسان يحاول أن يطبع نفسه، إذا كان يعرف أنه عجل -وكل إنسان عجول- ولكن بعض الناس يعرف أن عجلته زائدة عن القدر اللازم، فإنما الحلم بالتحلم، فيعود نفسه أن يكون حليماً، ويصبر نفسه أن يتحمل، وإن كان الموقف لا يطاق، وإن كان لا يستطيع أن يتحمل، لكنه يُعود نفسه على ذلك، وقد يكون الإنسان حليماً عن صفة طبعه الله عليها، وقد يكون حليماً عن صفة هو تخلق بها وتعودها، حتى صارت صفة فيه.

ومن أعطاه الله الحلم والأناة من عنده فتلك سجية عظيمة، ومنة كبيرة، لكن لا يعني ذلك أن من لم يؤتها لا يصبر نفسه حتى يكون ممن يتحلى بها، بل يجتهد الإنسان في ذلك، والله تعالى سيوفقه، قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، فمجاهدة النفس في الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لتكون مستقيمة على أمر الله هذه عبادة، وتأذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لمن فعلها، واتخذ هذا السبب أن يحقق له النتيجة بإذن الله.




 المبادرة مع الخشية من الوقوع في الزلات
السؤال: أحياناً تكون المبادرة في بعض الأعمال مما يحقق مكاسب للدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولكن الإنسان يخشى أحياناً أن يبادر فيقع في بعض الزلات أو الأخطاء، كأن مثلاً يُدعى إلى جهاد أو إلى عمل في منطقة ما، فيخشى إذا تأخر أن تفوته فرصة العمل لهذا الدين ونشر منهجه الصحيح، وإذا بادر فإنه أيضاً يخشى أن يقع في زلات أو أخطاء، فكيف الحل في مثل هذا؟
الجواب: الحل سهل والحمد لله، فنحن لا نعني بالمبادرة أن يتخذ قراراً اللحظة أو الآن، كما لا نعني بالأناة أن يؤجل الأمر سنة، فهو يستطيع في أيام أو في أسابيع أن يستشير وأن يفكر وأن يخطط، ثم يمشي على بينة.

كثير من الشباب الذين يدفعهم الاستعجال في مواقف معينة، كإنكار منكر قد يؤدي إلى منكر أعظم منه، وفي أمور قد يظن أن فيها خيراً للدعوة وتكون شراً، فالمراد هو الاستعجال الآني: أن تكون الفكرة وليدة اللحظة.

أما إذا كان هناك أمر أنت مهيأ له، ثم جاءتك فرصته، فقمت، فليس هذا من باب الاستعجال، بل هذا الذي نسميه (المبادرة).

مثلاً: هناك إنسان مقبل على الله، وأنت تريد أن تهديه وأن تدعوه، ولكنك تتمهل، وتقول: حتى تأتي فرصة مناسبة..!

يقول أحدهم: اليوم أريد أن أعتمر، فلا تقل: دعها إلى الأسبوع الآتي ونفكر، وننظر، أو نكون مع بعض، فهذه مشكلة.

لكن إذا كان القرار موجوداً والمبادرة هذا وقتها، فانطلق أنت وإياه في أقرب وقت ممكن.

وشخص آخر يريد أن يتوب، وقال: أنا عندي بنك ربوي، وأفكر أن أتخلص منه، فلا تقل: انتظر حتى نعمل لك دراسة، ونعطي لك خبراً بعد شهرين..!

هذا لا ينبغي يصلح، بل نقول: ابدأ واستغفر الله، واعمل كذا، والآن آتيك وأتصل ببعض العلماء، لتعرف ماذا تعمل، وكيف، هذه هي المبادرة.

فالمبادرة تكون في الشيء الواضح، أما الشيء الذي يحتاج إلى روية، فلا بد من الروية والتفكير والاستشارة، لكن كم مدة الاستشارة؟!

أيضاً قد جعل الله لكل شيء قدراً، بالمعروف والحكمة، فتكون فترة محددة، ثم بعد ذلك يكون القرار الصائب بإذن الله.




 الفرق بين الحكمة والتساهل في الدعوة إلى الله
السؤال: قد يختلط على الإنسان أحياناً التفريق بين الحكمة والتساهل في الدعوة إلى الله، فربما يتخذ مسألة الحكمة وعدم الاستعجال سبيلاً إلى التهاون والتساهل، فهل من توضيح لهذا؟
الجواب: هذه مع الأسف حقيقةً! وأصبح ذلك ذريعة للتهاون، فإذا نصحت إنساناً، فإنه يقول: يا أخي! الدعوة تكون بالحكمة.

بعض الذين يقولون هذا الكلام، لا نراه يدعو أبداً، فإذا وجد داعية يدعو، قال: لا بد من الحكمة، إلى متى الحكمة؟! وما معنى الحكمة؟!

ثم هو لا يقول الحق، ولا يأمر بالحق ولا يظهره، فإذا تكلم إنسان، وقال كلمة الحق، قال: يا أخي! لا بد أن يكون بالحكمة!

وهذا مما يعانيه الشباب ويعانيه الدعاة، أن هناك من يعكس الأمر.

الحكمة لا يجوز أن تكون سلاحاً في وجه من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الله؛ لأن الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دائماً معارضة لرغبات الناس ولشهواتهم؛ فالجنة حفت بالمكاره، وأما النار فحفت بالشهوات، فالإنسان إذا دعا إلى الله، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، فلابد أن يصادم رغبات الناس، فالناس يريدون أن يناموا إلى ما شاءوا، لا يريدون القيام لصلاة الفجر، فإذا قلت له: يا أخي! جزاك الله خيراً، قم صلِّ الفجر، جاءك شخص، وقال: يا أخي بالحكمة، فهل قصده ألا تكلمه البتة؟!

وإذا نصحت إنساناً -زوجته متبرجة- بالأسلوب الحسن، وهو عكس رغبتها؛ لأنها تريد أن تخرج، تريد أن تذهب إلى السوق، لا نتوقع أن الأسلوب ما دام حسناً وما دام حكيماً أن الزوج يقول: جزاك الله خيراً، والمرأة تتحجب..!

بل ربما ينكرون ويصيحون!

ويأتيك أحدهم يعاتبك، وما سمع بالقصة، ويقول: يا أخي، لو دعوت بالحكمة!

وأي منكر أنكرته، أو كلمة حق أظهرتها وقلتها، فإنهم يأتونك ويقولون: لو كانت بالحكمة!

لكن ما هي الحكمة؟

الإنسان قد يستنفد كل أسباب الحكمة، ومع ذلك لا يُقبل، ويكون مخالفاً لرغبات الناس، فالناس دائماً تريد المدح، وتحب الثناء، قال تعالى: وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا [آل عمران:188].

فإذا قلت له: أنت على خير، وأنت طيب، سُر من ذلك وهو يعرف أن هذا غير صحيح.

لكن لو قلت: يا أخيأنت وأنت، ومدحته، ثم قلت له: هناك أمر أريد أن أنبهك عليه، وأتيته بأسلوب.. كأنك تحدثه عن شخص غيره وقال: يا شيخ لو كلمته بحكمة!

وهذه مشكلة! فيجب علينا نحن أن نضبط عواطفنا ونفسياتنا، ولا نترك الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر ولا كلمة الحق، وأي شيء نرى فعلاً أنه بحكمة، نجتهد في ذلك، ونتوكل على الله، وعليه التكلان دائماً قبل العمل وبعده، فنتوكل عليه ونجتهد في الحكمة.

فإذا جاء إنسان وقال: هذا خلاف الحكمة.

نقول له: بَصِّرْنا كيف نعمل! فإن كان عنده بصيرة، أو رأي جزاه الله خيراً، وإن كان كما نلاحظ هذه الأيام، يريدون ألا نقول ولا نعمل ولا ندعو؛ باسم الحكمة! فهذه ليست حكمة، بل هذا خذلان وتثبيط، وترك لما أوجب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يجوز أن نقر الناس على هذا.

حقاً إن الحكمة أصبحت سلاحاً يشهر به في وجه من يدعو إلى الله، ويقول كلمة الحق، وإن كانت بأحكم ما يمكن أن تكون من الحكمة، والله المستعان! والنفوس لا تقبل الحق، وهكذا جبلت، وهكذا طبعت، لكن لا بد من الصبر عليها، ولله عاقبة الأمور.




 الاستعجال في تطبيق الفتوى مما يسبب الإرباك
السؤال: بعض الإخوة يقرأ فتوى أو حديثاً، فيتعجل ويعمل بها، وربما يلزم الناس بها، مما يسبب إرباكاً له ولغيره، فما نصيحتكم لمثل هذا؟
الجواب: نعم هذا من الاستعجال، أن الإنسان يقرأ شيئاً من العلم أو من كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو من كتاب الله، أو من كلام أهل العلم، فيستعجل في فهمه، ويستعجل أيضاً في تطبيقه وفي العمل به، فلا يتأنى ليتبين له ما معناه، وما ملحظه.

النصوص قد تعب فيها العلماء الجهابذة الكبار، في تخريجها، وفي بيان ألفاظها ومعانيها، وفي تنزيلها على مواقعها.

العلماء يقولون: لا بد من تحقيق المناط، ومن تنقيح المناط، ومن تخريج المناط، في أي نص من النصوص، لكننا الآن نقرأ النص رأساً، ولا شك أن من الخير والفضل أن يبادر الإنسان بالعمل، لكن لا بد أن تفهمه وتفهم موضعه، وأين دلالته، وما مقتضى دلالته، فكونك تستعجل وتنفذ فوراً، هو لا شك مطلوب، لكن بعد أن تفهم ما المقصود منه، وماذا يراد به، ولهذا يقول تعالى: فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].

علينا أن نسأل وأن نتبين ما المقصود بهذه الآية وهذا الحديث وهذا النص، فيما يشكل علينا معناه؟ وليس هذا في أمور عباداتنا بالذات، فالأمور واضحة ومدروسة، ولكن أقول أيضاً: إن هناك أموراً خاصة في الوقائع والنوازل لا بد أن نتأنى فيها، وأن نسأل العلماء، وأن نأخذ كلامهم، وأن نستفهم ماذا أردت بهذا الدليل؟ ماذا أردت بهذه العبارة؟

ثم بعد ذلك يكون عملنا على بصيرة، والإنسان لا بأس أن يسأل عالماً أو عالمين، ويسأل من يطمئن إلى من يتحقق فيه أمران، وهما: معرفة الدليل الشرعي من جهة، ومعرفة الواقع المسئول عنه من جهة أخرى.

فإذا سألتُ إنساناً عن طبيعة عملي، -فمثلاً- أنا أعمل في بنك، فعليّ أن اسأل يعرف طبيعة البنوك، بالإضافة إلى أنه يعرف أحكام الربا، فلا بد من الشرط الثاني، كما ذكر شَيْخالإِسْلامِ ، عندما سئل عن قتال التتار، قال: إن الأمر يتعلق بأمرين: الأول: معرفة حالهم، والآخر: معرفة حكم الله في مثلهم، فننزل الحكم على محله، فيكون الحكم صحيحاً.




 حال من يشكو من صراع نفسي
السؤال: يقول السائل: إن هناك صراعاً نفسياً يصاحبه -وعبَّر أنه يصاحب كل ملتزم بهذا الدين- فهل هذا الصراع من الابتلاء الذي ابتلاه الله عز وجل به؟ ويقول: إنه ساءت نفسيته بشكل شديد جداً، حتى أصبح يطلب النصر من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لشدة ما يعانيه هذا المبتلى، فبماذا تنصحون هذا الأخ؟
الجواب: ليس كل تائب، وكل مقبل، وكل منيب إلى الله، يعاني من ذلك، ولكن عموماً كل من دعا إلى الله أو أقبل على الله وتاب، لا بد أن يجد ما يشق على النفس، أو ما يجهدها، من داخل النفس أو خارجها، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ [الفرقان:31]، وللنفس دائماً ثلاث حالات لا تخلو عنها:

إما النفس الأمارة بالسوء، أو النفس اللوامة، أو النفس المطمئنة، فالأمارة بالسوء -وهذه عند أكثر الناس إلا من رحم الله- دائماً أنفسهم تأمرهم بالسوء.

و المؤمن نفسه لوامة، تأمره بالسوء أول الأمر فيفعله، ثم تلومه عليه: لماذا ذهبت إلى السوق من غير غرض شرعي؟

لماذا نظرت النظرة المحرمة؟

لماذا قلت الكلمة الآثمة؟

فتلومه -كما فسرها السلف - على ما فرط وما بدر منه.

الثالثة هي: النفس المطمئنة وهذه هي الدرجة العالية.

والنفوس المطمئنة: هي التي يصبح الخير والحق هو همها، وهو ديدنها وهو حياتها، وهذه من نعم الله إذا منَّ الله تعالى على الإنسان، بأن تصبح نفسه مطمئنة.

فالأخ المهتدي والمستقيم في مرحلة النفس اللوامة، يجد ربما ما يسميه بعض الإخوة الصراع النفسي، وأنه متردد، تأتيه دوافع للقنوط، ودوافع للرجاء والأمل، الخوف والرجاء دائماً يتصارعان في نفسه.

و يأتيه حب الخير والإقدام عليه من جهة، ومثبطات ومخذلات من جهة تكبله.

يريد أن يحفظ القرآن وأن يتعلم العلم، ولكن يأتيه ما يعيقه.

فتجده يعاني ما يعاني من الصراع.

فالأب والأم والأهل والزوجة، والأقارب والزملاء في العمل يريدهم أن يهتدوا، هذا من جهة، ومن جهة قد لا يمتلك أسباباً تعينه في الدعوة، فيعاني هذا الصراع.

وكل إنسان يعانيه، لكن علينا أن نأخذ بالأسباب وبما أمر الله ونجتهد، ونصبر حتى نستكمل ما أراد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن لم يصل الإنسان إلى مرحلة النفس المطمئنة، فعلى الأقل يلقى الله، وهو يجاهد نفسه لكي تكون مطمئنة.

وما ذكره الأخ من الضراعة في الدعاء لطلب النصر، هذه نعمة، فشعورك بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ابتلاك بهذه البلوى، وتضرُّعك ولجوءك إليه نعمة، كما قال ابن القيم رحمه الله:''إن الإنسان يلجأ إلى الله ويتضرع إليه، فيجد من حلاوة مناجاة الله ومن لذة الدعاء، والتذلل، والتضرع إلى الله، والانكسار بين يديه، نعمة تنسيه النقمة التي يدعو الله أن تزول عنه، أو تنسيه النعمة التي يطلبها من المنعم'' .

التضرع والدعاء نعمة، والذكر نعمة، ولهذا قال شَيْخ الإِسْلامِ : ''إنه ليأتي عليَّ أحوال، فأقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي نعيم'' ويشعر الإنسان أنه مع الله، وأن عمله مع الله، وأنه مستمسك بحبل الله وبالعروة الوثقى من عند الله، ويصل إليها الإنسان المؤمن بإذن الله بمثل هذه الحالات، بمرض، وبمحن، وبالآلام.

وكل رسول، وكل داعية يبتلى ويمتحن ويفتن ويُؤْذى، فيجد مثل هذه النعمة في طريقه إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.




 حال الشباب المذبذبين
السؤال: بعض الشباب هداهم الله تتذبذب آراؤهم في كل حين، فتراه في الليل له رأي، وفي النهار له رأي، وينتقلون أحياناً من النقيض إلى النقيض الآخر، فما نصيحتكم لهؤلاء الشباب؟
الجواب: هذه علامة من علامات الاستعجال: عدم الانضباط، التذبذب، وهو مرض في بعض الناس حتى إنه في قراراته الشخصية اليومية يتعب، وبعض الناس يمهد لنفسه أن يصاب بهذا المرض، وذلك لأنه لا يحسن الأمر، ولا يأخذه من أبوابه، بل عجلته في اتخاذ قرار معين هي التي تجعله يندم، ثم تجعله يستعجل في القرار المضاد، ثم يستعجل بضده..وهكذا.

من أعظم صفات المؤمنين الاطمئنان والسكينة، ولذلك فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما امتن على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنزل عليه سورة الفتح قال: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ [الفتح:4].

وقد كانت النفوس جياشة، كيف يكون هذا الصلح؟! أنرضى بالدنية في ديننا؟!

وكانت القلوب تغلي من الحدث، فلما أنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى السكينة في قلوبهم، واطمأنوا وتأملوا، وأيقنوا أن ما وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الخير، وأن ما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الخير.

ثم ثبت ذلك في العام الذي بعده، فما بعده، وإذا به فعلاً يكون الخير ويكون الفتح المبين كما قال تعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح:1]، فهذا فضل عظيم، وفرح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جداً لما نزلت عليه هذه السورة.

الطمأنينة والسكينة من صفات النفوس المؤمنة، ويجب أن نسعى إلى أن تكون نفوسنا إن شاء الله كذلك، فنطمئن دائماً بذكر الله أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].

تطمئن أيضاً القلوب وتسكن بالتفكر في وعد الله، وفي أنَّ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإن أملى وإن أمهل فإنه لا يهمل أبداً، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لن يخلف وعده، وأن نصره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى متحقق، وأن عافيته ستأتي وإن كنا في حال البلاء، وأن نصره سيأتي وإن كنا في حال الهزيمة، وأن عزه سيأتي وإن كنا في حالة ضعف، وهذا مما يطمئن الإنسان به نفسه، ويجتهد في ذلك حتى يأتي الفرج بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

أما أن تكون صفة الشباب هي التذبذب، فهذا دليل على أنه ليس لديه ثبات علمي، ولا ثبات في الرأي، ولا استشارة ممن يملكون الرأي، وأحياناً قد يشار عليه ولكنه لا يفعل، ولا يريد أن يفعل، فينقلب ويتخبط، وهذه آفة نسأل الله تبارك وتعالى أن يرفعها عن الشباب وأن يبعدها عنهم.




 الكلام حول التنظيم الأصولي والإرهاب
السؤال: في جريدة الحياة كتب أحدهم موضوعاً عن فشل التنظيم الأصولي -كما يسميه- ثم بعد أن تكلم عن هذا قال: إنه سيتكلم في عدد لاحق عن كيفية مواجهة الإرهاب، يقول السائل: من المقصودون بهذا؟
الجواب: الأصوليون أنتم... وأنتم المقصودون، كان الغرب يتكلم عن الأصولية الإيرانية كما تسمى أيام الخميني ، ثم عرفها وعرف حقيقتها، وعرف ما قدمت له من رصيد لمحاربة الإسلام من أفعالها ومن تصرفاتها.

والآن إذاعة لندن تسمعونها قبل أحداث الخليج ومن سنوات تتكلم بذلك، وكذلك مونتكارلو، وصوت أمريكا.

الكلمة البديلة، والتي يخشون من ظلالها، والأصولية الحقيقية التي يخافونها هي ما يسمونها بـالوهابية .

يقولون: الجهاد الإسلامي في أفغانستان نوعان، التنظيمات الوهابية ، وهذه التي لا تقبل مساومة.

وأما التنظيمات الأخرى فهي التنظيمات المعتدلة، بمعنى أنها تقبل الحكم الديمقراطي والنيابي، وهذا هو المعتدل عندهم.

الأصولي: من يرجع إلى الأصول، أي: إلى قال الله وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم لا يريدون إلا المعتدل في نظرهم، والوسط على مزاجهم، أما الذي يريد الحق كما أمر الله، وكما أنزل الله، فلتأته التهم، ومنها أنه أصولي، ويربطون بين الإرهاب والأصولية.

باول شميدس في كتابه الإسلام قوة الغد العالمية ، يقول عبارة خطيرة جداً لكنها حقيقة، يقول:

''إنه قد تبين من التاريخ أو من استقرائه أنه أينما وجدت الحركة الوهابية ، فإنه يوجد معها مقاومة الغرب ومقاومة الاستعمار'' .

لأن منهجهم قال الله، قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنهج الغرب وحضارة الغرب وإلحاده وكفره شيء آخر، فلا يجتمعان، وقد وجدوها هم في جزيرة العرب وهي منبع ومهبط الدعوة.

في الهند عندما كان عباد الأبقار قد استسلموا للإنجليز حتى كان الإنجليزي -خاصة من أهل اسكتلندا - من شحه لا يركب قطاراً ولا يركب حماراً بل يركب على ظهر الهندي، ويمشي به مسافة بعيدة.

وأما المسلمون فكثير منهم من تخاذل وركن إلى الدنيا، ومن جاهد وقاوم الاستعمار الإنجليزي وجدوا أنه متأثر بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، أو على منهجه. وجدوهم في نيجيريا : عثمان بن فودي ومن معه.

وجدوهم في الصومال وجاهدوهم.

حتى مهدي السودان أصل دعوته كانت على منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب من التوحيد وهدم القبور، ثم دخله الفساد -والعياذ بالله-، لكن أول دعوته كانت محاربة الشرك والبدع.

وكذلك عمر المختار في ليبيا .

والأصولية الوهابية التي ترجع إلى الكتاب والسنة، أو الحنبلية كما تسمى أحياناً، وهي ألقاب ينبزون بها من يدعو إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

الأحداث الأخيرة غطت على ما حدث في الجزائر ، بغض النظر عن رأينا الكلي فيها حدث. وهناك عبرة معينة أريد أن أسلط الضوء عليها الآن:

لقد انزعجت الصحافة الفرنسية وانزعج الغرب انزعجوا جداً من انتشار الأصولية في الجزائر ؛ لأنهم عرفوا دعوة الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله، وأنه أقام الدعوة على أساس التوحيد، ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كما جاء بها، وكتب عن الشرك والبدع والخرافات.

وكان من منهج الشيخ عبد الحميد أن أول ما يبدأ به هو محاربة البدع والخرافات عند الشعب، حتى ينتشر العلم الشرعي، ثم الولاء والبراء، ثم الجهاد، وهي مرحلية لم يفطن لها الاستعمار، ولهذا تركوه أول الأمر يدعو، وتركوه يفتح الصحف، وما فطنوا إلى أنه لا يرضى بالوجود الفرنسي.

لكنه -رحمه الله- يريد أن يبدأ بالأساسيات، مرحلة الدعوة أولاً.

نقول: تحليلات خطيرة جداً غطت عليها الأحداث الأخيرة، وكانت دائماً ترددالأصولية في الجزائر ، الأصولية هنا، والحادث الذي جرى في جزر ترينداد ، ربطوه بالأصولية وبـالجزائر ، وقالوا: الأصولية خطر يهدد العالم، لكن جاءت أحداث أخيرة وطغت على ذلك، والله المستعان!




 المستعجلون من الشباب في طلب العلم
السؤال: بعض الشباب يستعجل في الوصول إلى أعلى درجات العلم والعلماء، حتى إنهم يقولون على الله بغير علم، ويفتون بغير علم، وبعضهم يقرأ كتباً أعلى من مستواه، ومن مستوى إدراكه، فما نصيحتكم لهؤلاء؟
الجواب: هذا من أنواع الاستعجال: الاستعجال في طلب العلم، وقد قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه لما فسر الربانيين وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79] قال: [[و من يربي الناس بصغار العلم قبل كباره ]].

ولا يعني بالصغر والكبر أن الصغيرة النوافل والكبيرة التوحيد.

إنما يعني بالصغار: البديهيات والمسلمَّات الواضحة، والكبار: هي الأمور المعقدة والصعبة، ودائماً أقول للإخوة الكرام: ابدءوا العلوم بدراسة متون معينة، مبسطة، ثم خذ شرحاً مبسطاً عليها، ثم توسع فيما بعد ذلك.. وهكذا.

لكن عندما يأتي بعض الإخوان يريد أن يبدأ في طلب العلم، فيبدأ في الكتب الكبيرة، فبعضهم قال: بدأنا بـفتح الباري ، والأخ الثاني يقول: بدأنا بـمجموع الفتاوى .

سبحان الله! إنني عندما أقرأ في فتح الباري ، أجد أنني أحتاج في صفحة واحدة إلى أن أراجع عدة كتب، وأن أنقب، وأن أفتش، وأن أكلم المشايخ بالتلفون، فالمسألة ليست سهلة، ويمكن أن يكون هناك من فتح الله عليه، لكن أنا أقول فيما نرى وما نعلم من تكويننا وتربيتنا جميعاً؛ لأن دراستنا دراسة نظامية، وهي لا تعطينا الزاد الكافي لمثل هذه الأمور.

كذلك مجموع الفتاوى لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية ، بعض الكلمات مع الأسف مطبوعة خطأ، ويأتي من يشرحها، وقد تمرس على كلام شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية ، فيشرحها خطأ.

وأحياناً تكون غير مشروحة في الهامش، أو غير واضحة، أو واضحة، لكن لم يفهمها؛ لأنه رجل عميق، يكتب في بحور من العلم عميقة وغزيرة، يحتاج كلامه إلى أن يفهم على مستوى معين، فلا نستعجل فنطمر الأمور طمراً.

إذا بدأنا بـفتح الباري ، ومجموع الفتاوى ننتهي بـعمدة الفقه ، أو بـالأربعين النووية .. بدأنا السنة من أعلاها، ولم نأخذ الأمور من أولها.

بعض الإخوة يبدأ بالقراءات، ولا أعترض على من لديه دراسة منهجية يمكن أن يحفظ القرآن بالقراءات، لكن بالنسبة للحالات العادية، وهي من كان مثل حالة معظم الإخوة، الذين يعيشون طبيعة دراسية نظامية مع عمل وأسرة، فهذا أقول له: ابدأ بما أمكن أن تبدأ به وأتقنه، ثم انتقل إلى ما بعده.

والسلف الصالح رضي الله عنهم ضربوا لنا المثل في عدم العجلة فقد كانوا يطلبون العلم ويرحلون في طلبه، ثم يحدثون، لا تجد أحداً من العلماء ابتدأ يحدث، بل تعلم وحفظ وطلب العلم، ثم حدث.




 السيرة النبوية ومراحل الدعوة
السؤال: لا شك أن قراءة سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودراستها مما يقي الإنسان من الوقوع في العجلة وفي الاستعجال، ولكن هل يلزم الداعية إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يدعو سنين دعوة سرية كما فعل عليه الصلاة والسلام، ثم ينتقل إلى الأقربين.. وهكذا، أي ثلاث عشرة سنة مثلاً بحال معين، وأخرى بحال أخرى، أم أن الاستفادة تكون عامة؟
الجواب: لا شك أن دراسة سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضرورية، وهي الأساس الذي يجب على كل داعية أن يتخذه منهجاً في دعوته، فهو الأسوة الحسنة لنا، لكن فرق بينالتقيد الحرفي بوقت الدعوة، بمددها ومراحلها، كما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبين أن ننظر إلى ثمرة المرحلة، ونهاية المرحلة، وغاية المرحلة، فالوضع غير الوضع.

فقد بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوم كفار، كما هو معلوم، ولكن نحن الآن في أمة مسلمة، ولكنها تحتاج إلى تصحيح، هذا أحد الفوارق وأهمها، وهناك فوارق أخرى.

فننظر إلى الثمرة، فما هي ثمرة المرحلة الأولى؟ وما غايتها؟

غاية المرحلة الأولى السرية هي إيجاد أناس إذا ظهروا فيما بعد يكون لديهم قوة، لا يستطيع الأعداء أن يستأصلوهم، وإن كانوا سيؤذون، وقد أوذوا، فإذا وجدت الدعوة في بيئة لا تحتاج إلى هذه المرحلة؛ لأن الفئة المؤمنة يمكن أن تظهر أو هي ظاهرة، بمعنى أنها واضحة، ومع ذلك لم تستأصل، فهذا خير.

إذاً: لا نحتاج إلى المرحلة الأولى لأن ثمرتها موجودة والهدف منها موجود.

مرحلة الجهاد: نقول أيضاً: لو وجدت أمة تعيش في مرحلة يمكن أن ننقلها رأساً إلى مرحلة الجهاد، نقول: على هذه الأمة أن تجاهد، وننقلها إلى الجهاد، ونستكمل بعض أمور التربية في الجهاد، وهذا صحيح.

لكن إذا وجد أن الأمة تحتاج أولاً إلى الدعوة والعلم والإعداد للجهاد، والجهاد لا نقصد به جهاداً معيناً في بلد معين، بل الجهاد باعتباره حالة دائمة، فالأمة الإسلامية في جميع عصورها في حالة استنفار دائم، ويجب أن تكون مناهجها مناهج جهادية، وحياتها حياة جهادية، فجهاد الطلب عندنا هو الأساس.

ومفروض أننا نصلح أوضاع الأمة هذه، ثم نقوم بجهاد الطلب، ونقاتل.

وجهاد الطلب غير جهاد الدفع، فجهاد الطلب: أن نذهب إلى الصين ، إلى الروم ، نغزوهم في بلادهم، لندخلهم في دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهكذا يجب أن تكون حياة المسلمين جميعاً، فنعد العدة لهذا الجهاد.

نعد الأمة في مرحلة الدعوة لهذه المرحلة التي هي آخر المراحل وهي مرحلة الجهاد، فيبسط الله سلطان هذا الدين في الأرض، ويُمكّن له، ويورث الأرض عباده الصالحين كما وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويمكّن لهم، ويورثهم الأرض بهذا الأمر.

إذاً: يكون الأمر بحسب البيئات وبحسب أحوال الناس، وبحسب المقصود بتلك المرحلة، أما التقيد الحرفي فليس صحيحاً كما يظن بعض الإخوة.

بعض الجماعات أو الدعوات فهمت تكفير المجتمع بناء على المرحلة المكية، وأسقطت كثيراً من التكاليف، وقالوا: نحن في المرحلة المكية، وهذا من أكبر الأخطاء الدعوية.

ومن جملة ما فيه من أخطاء: أنه نسخ أحكاماً ثابتة قطعية، بدعوى أو بزعم الرجوع إلى مرحلة قد نسخت وانتهت.

فلا بد من إدراك متأنٍ ومتفقه، في مسألة الفرق بين هذه المراحل، وبين ضرورة الإفادة من سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا شك أنها الأساس، والصحابة الكرام -رضوان الله تعالى عليهم- كانوا ينظرون إلى واقع الأمة، فيبنون على الواقع الموجود، فعندما وصلت الأمة إلى مرحلة الصفر، كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما بدأ دعوته من مرحلة الصفر، ومثل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، حيث جاء والأمة قد نزلت إلى الصفر إلى الشرك، فما بعد الشرك شيء، وابتدأ يدعو كما دعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى التوحيد، وابتدأ قليلاً قليلاً ثم قامت من جديد ولله الحمد!

لكن في عهد الإمام أحمد كان الانحراف في مسائل معينة كلامية مثل خلق القرآن وما أشبهه، فقاومها، وقضى عليها، والحمد لله! الأمة صالحة.. وهكذا، فالمرحلية يجب أن تفهم فهماً صحيحاً.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
موقع صيد الفوائد







الأشقياء :



الأشقياءُ بكلِّ معاني الشقاءِ همُ المفلسون من كنوزِ الإيمانِ ، ومن رصيدِ اليقينِ ، فهمْ أبداً في تعاسةٍ وغضبٍ ومهانةٍ وذلَّةٍ ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً  .
لا يُسعدُ النفس ويزكّيها ويطهرُها ويفرحُها ويذهبُ غمَّها وهمّها وقلقها إلاَّ الإيمانُ بالله ربِّ العالمين ، لا طعم للحياةِ أصلاً إلاَّ بالإيمانِ .
إنَّ الطريقة المثلى للملاحدةِ إن لم يؤمنوا أن ينتحرُوا ليريحُوا أنفسهم من هذه الآصارِ والأغلالِ والظلماتِ والدواهي ، يا لها منْ حياةِ تاعِسة بلا إيمان ، يا لها منْ لعنةٍ أبديةٍ حاقتْ بالخارجين على منهج الله في الأرض ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ   وقد آن الأوانُ للعالمِ أن يقتنع كلَّ القناعة ، وأن يؤمن كلَّ الإيمانِ بأنَّ لا إله إلا الله بعْدَ تجربةٍ طويلةٍ شاقةٍ عبْرَ قُرونٍ غابرةٍ توصَّل بعدها العقْلُ إلى أن الصنم خرافةٌ والكفر لعنةٌ ، والإلحاد كِذْبةٌ وأنّ الرُّسُلَ صادقون ، وأنّ الله حقٌّ له الملكُ ولهُ الحمدُ وهو على كلِّ شيء قديرٌ .
وبقدرِ إيمانِك قوةً وضعفاً ، حرارةً وبرودةً ، تكون سعادتُك وراحتُك وطمأنينتُك .
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ  وهذه الحياةُ الطيبةُ هي استقرارُ نفوسِهم لَحُسْنِ موعودِ ربِّهم ، وثباتُ قلوبِهم بحبِّ باريهم ، وطهارةُ ضمائرِهم من أوضارِ الانحرافِ ، وبرودُ أعصابِهِم أمام الحوادثِ ، وسكينةُ قلوبِهم عندْ وقْعِ القضاءِ ، ورضاهم في مواطن القدر ، لأنهم رضُوا باللهِ ربّاً وبالإسلام ديِناً ، وبمحمَّدٍ r نبياً ورسولاً 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مـن كـتاب"لاتــحـزن"
د. عائض القرني
..............................................................
.....................................................................



ليست هناك تعليقات: